سأكتب اليوم عن انهيار أحد أحلامي التي طالما رفعت راياتي مناديا ومطالبا بها، والتي لم تكن تريد أكثر من منصة إعلام مهنية محايدة حقيقية، تجعلنا نشعر بإمكان أن نكون أمة متقدمة، ولو على جانب نقل الخبر والمعلومة، خاصة أننا -كعرب- أهل لغة وبالتأكيد سنكون بارعين جدا على مستوى الصياغة والأداء والإقناع أيضا، إذ لا ينكر أحد من جيلي وما بعده حجم الإعجاب الشديد بلغة الخطاب الذي كانت تبثه قناة الجزيرة الإخبارية في بداياتها، وقد كنا نحتفل بمنجزها وأدائها الاحترافي الذي كنا نحلل تفاصيله بعين الرضا والدهشة، حتى اعتقدنا أننا أخيرا حصلنا على نافذة حقيقية لتلقي الخبر وتغيير تابوهات الإعلام العربي الرتيب والمكرور.
هذه بالطبع هي انطباعات أي عربي عاصر فترة التسعينات وأحداثها المتقلبة المليئة بالمتناقضات، والتي شدت الانتباه إلى عالم الأخبار السياسية والاقتصادية، ومفاهيم التحليل والخبر وما وراء الخبر، وعناوين البرامج الجذابة، مثل «الرأي والرأي الآخر، والاتجاه المعاكس، وسري للغاية..... إلخ»، وهكذا كنا نظن أننا حصلنا على الكنز أخيرا، لكن الأيام بتتابعها كشفت بشاعة ما وراء الأكمة للأسف، وظهرت رؤوس القبح التي كانت تستتر خلف ابتسامات المذيعين والمذيعات، وسط دهشتنا بهذه النافذة التي روّجت لنفسها كومضة نور تنبثق من بين الماء.
لقد كان كل شيء معدا بذكاء وخبث معا، للاستحواذ على الجماهير العريضة في الشوارع العربية والإسلامية.
اليوم، سقطت الأقنعة، وسقط بالطبع كل ما ومن يمثل قناة الجزيرة، كما تسقط أية منصة تضمر الشر وتحيك المؤامرات لمصلحة أهداف تيارات سياسية أو دينية انتهازية، وباتت تشكل ليس خطرا على الأمة العربية والإسلامية وحسب، بل على العالم بأسره، وسقطت بالتالي كل مفاهيم المثل العليا والمهنية، وأصبح من المهم أن نكون أذكياء بما يكفي لنعبر وهم الجزيرة، ونبحث عن حلم آخر أكثر أمانة في رؤية أحلامنا، فقد اكتشفنا الخديعة.
لا أعلم على وجه الدقة، كم خبرٍ وتقرير معادٍ أو مسيء بثته قناة الجزيرة عن المملكة العربية السعودية وحدها، فضلا عن مصر واليمن وسورية والعراق! لكنها بلا أدنى شك عندي توازي أكثر من نصف إنتاجها الإعلامي عبر تاريخها -إن جاز لي وصفه بالإنتاج الإعلامي- وهو ما يجعلنا موقنين تماما أن أحد أهم أهداف القناة التي قامت عليها هو زعزعة أمن السعودية، هذا البلد العظيم الذي تعيش تحت ظلال صلابته وسلامته دول أخرى، وسيفطن المتنبه مباشرة -ودون عناء- إلى العمل القذر الذي تقف خلفه هذه القناة، خاصة في العقد الأخير الذي لم تستطع فيه إخفاء وجهها القبيح الذي هزمته السعودية بسياستها ذات النَفَس الطويل.
فعبر ملايين التحليلات وملايين التقارير المضللة التي بثتها الجزيرة، شكّلت معها عقلية جيلين على الأقل، إذا افترضنا أن التغيير والمجايلة يحسبان كل عقد من الزمان، لكن المخيب بالفعل أن تلك التقارير لم تكن نزيهة بما يكفي وهي تتلاعب بعواطفنا وأحلامنا ومستقبل أجيال هذه الأمة العربية، لم تكن أبدا تحترم عناوينها المبشرة بالحياة الكريمة للمواطن العربي، والتحول الاقتصادي العملاق الذي رسمته ذات كذب، لتصنع لاحقا تهمها الجاهزة القابلة للتصديق على الدول العربية وأولها السعودية!
الجزيرة التي طالما رفعت شعارات: العدالة والمساواة والتحرر من الظلم والاستبداد -زورًا وبهتانا كما اتضح لاحقا- هي نفسها التي تسببت في أحد أهم خيبات تطلعات المواطن العربي الكبيرة، وأجهزت على ما تبقى من آماله في حياة مهذبة عالية الترتيب والمصداقية.
فكيف إذن يمكننا أن نتحول إلى مجتمعات العالم الأول وآلاتنا الإعلامية العربية الضخمة تنحاز وتكذب وتدلس وتضلل بلا رحمة؟!
اليوم، أجزم أن 90% من مجايليّ توقفوا عن متابعة هذه القناة، بعد أن أيقنوا أنهم أكبر من أن يكونوا أداة في يد أناس يقبعون خلف مسرح الدمى، والذي تبثه شاشة القناة عبر أستديوهاتها ورتوش المكياج على وجوه مذيعاتها ومذيعيها.
وأجزم أكثر أن اللعبة انتهت تماما.