حقيقة، ما أكثر المفاهيم المغلوطة التي اعترت ديننا الحنيف وخطابه، على أيدي وألسنة غير المؤهلين للعلم والمعرفة، كمفهوم الجهاد، والخلافة، والحاكمية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومفهوم دار الإسلام ودار الكفر، وغير ذلك مما خرج عن إطاره الشرعي الصحيح، وصار علامة على أولئك المنفّرين، الذين كانوا وما زالوا أحد أهم أسباب الحكم الجائر على الشريعة السمحاء، مما يحتم على العلماء الأنقياء الأتقياء القيام بتجلية هذه المفاهيم، وإبراز الوجه الصحيح الذي تقصده الأدلة الشرعية، خاصة أن خطورة المفاهيم الخاطئة والمغلوطة، وما تنتجه من صور ذهنية خاطئة أيضا، تجعل حياة الفرد خاطئة، مهما حاول أن يجتهد فيها، أو ينجز.
نحن اليوم، وأمام كلام السابقين، على طرفين: طرف يشيد إشادة بالغة بما قدموه، وطرف يقول بضرورة تجاوز كلامهم، وغاب الطرف العاقل بينهما، وهو الذي لا تمنعه إشادته أن يختصر من كلام السابقين، ويأخذ منه ما يناسب، أو يقوم بالشرح والتوضيح، وليس في ذلك أي انتقاص من أدوار مَن سلف، لا سيما أن أنواعا كثيرة من الخطابات تحتاج إلى تجديد وإصلاح، وليس الأمر محصورا في الخطاب الديني فقط، فالخطاب الثقافي يعاني، والخطاب التعليمي مثله، والخطاب الاجتماعي كذلك، وقائمة المعاناة والتردي تطول، والمواجهة مع تحديات العصر ضعيفة، والتخلف في أي فرع من فروع المعرفة، يعني تخلفنا كأمم وأفراد عن ركب التقدم، وانعزالنا عن الأمم المتحضرة، ومع أن عصرنا متميز بالرخاء والرفاهية والمدنية، إلا أنه لم يكف كل أهله في أن يعيشوا دون الشكوى من التوتر والقلق، وأحيانا من غياب الأمن، والتضوع من الجوع، وفوق هذا وذاك، قلة وجود الكفاءات اللازمة لسد كل الاحتياجات الضرورية.
أعود إلى أول المقال لأؤكد أن سند التطرف وجماعاته المتعددة هو على التفسير الخاطئ والفهم المغلوط للإسلام، وأن ما يفتقده الفكر العربي والإسلامي المعاصر في مواجهة المسألة الدينية وغيرها من القضايا الكبرى هو غياب العمق، وبعد النظر، والقدرة على الاستشراف، وليس عيبا التصريح بأن الفكر الحالي بات ذا رؤية ضعيفة لفقدانه الخصوصية، بل قد وقع في فخ تقليد الآخر، وأصبح يقتاد على أفكار الغير، إما بتقليبها أو بالتحايل عليها، أو بعدم القناعة بالتغيير، بحجة الحفاظ على الدين، أو بحجج أخرى، والواقع يؤكد أن التدين الشكلي المبني على المظهر دون الجوهر تديّنٌ مغشوش، وسبب رئيسي في الفهم المغلوط لجوهر الدين، وهذا كله يجعلني وغيري نشدد على أن بناء الإنسان لا يكون إلا من خلال أمور كثيرة، في مقدمتها عدم التحايل على القوانين والشرائع، وتفعيل الدور الرقابي على النفس، وعدم الغفلة عن المستنقعات التي ينبت فيها الغلو في الدين، مع الحذر من الاقتراب من الثوابت الدينية، والمجمع عليه بين الناس، والمشاريع الناعمة التي تستهدف تحريف المفاهيم، بدعوى أنها «مفاهيم يجب أن تصحح»، والخوف كل الخوف من القيام بمواءمات على حساب الثوابت المتفق عليها، لتوافق أهواء المبتدعة وأصحاب العقائد الفاسدة، وتلبي رغبات المتطرفين والغلاة، والمنحلين.