لا يوجد خلاف بين المثقفين والمفكرين كافة على أن الإرهاب آفة ابتليت بها جميع المجتمعات منذ بداية الوجود البشري، وأن كل الأديان، السماوية وغير السماوية، شهدت في فترات مختلفة من تاريخها ظهور فئات من أتباعها اتجهت نحو الغلو والتطرف لأسباب متفاوتة، فبينما ظن البعض أنهم بمسلكهم الخاطئ يخدمون أديانهم ويضعفون ما سواها، فإن الغالبية العظمى سلكت هذا الطريق طلبا لمصالح ذاتية وأغراض خاصة، بعيدة كل البعد عن الشعارات التي يرفعونها، والتي تتخفى وراء مزاعم دينية براقة، باستخدام أدلة وبراهين ونصوص حاولوا تطويعها لمصلحتهم.

 وإن كانت الأحداث الإرهابية التي وقعت خلال العقدين الماضيين في كثير من أنحاء العالم، ويقف وراءها بعض الذين ينتسبون للدين الإسلامي، قد مثَّلت فرصة مواتية للكارهين الذين انتهزوها وألصقوها بالإسلام، وحاولوا اختلاق رابط بين الدين الحنيف والإرهاب، فإن الجهود الصادقة التي بذلها علماؤنا الأجلاء ومثقفونا فشلت في نفي وجود تلك العلاقة لأسباب متعددة في مقدمتها أنهم لجأوا إلى التواري خلف نظرية المؤامرة، ولم يشغلوا أنفسهم بالبحث وراء السبب في ظهور نسبة من المتشددين بين المسلمين، فهذه الفئة موجودة بيننا للأسف، وإن كانت بنسبة ضئيلة كما أكد المختصون. ورغم تقديري لجهود المخلصين الذين نافحوا عن الإسلام، وسعوا إلى تأكيد وسطيته وسماحته ودعوته للتعايش مع الآخر، ورفضه للتنطع والغلو، إلا أن معظم تلك الجهود لم تؤت ثمارها بالشكل المطلوب، لأننا ركزنا جهودنا على تكرار ما ظللنا نتحدث به، ونقيم المؤتمرات في بلادنا، ونتحدث بلغتنا، ونخاطب بعضنا البعض لإثبات براءتنا، بينما ظلت الصورة النمطية للإسلام والمسلمين تتأطر داخل إطار العنف والإرهاب.

 خلال العامين الماضيين اتبعت رابطة العالم الإسلامي، تحت قيادة أمينها العام الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، أسلوبا جديدا ومختلفا، يقوم على العلمية والمنهجية، وتأصيل إثبات الإسلام لحق الآخر في الاختلاف، ورفضه لأشكال الإكراه كافة، وعدم الاكتفاء بإثبات وجود ظاهرة التطرف، بل التركيز على تحليل أسبابها، ومعرفة مصادر تغذيتها وتأجيجها، ومن ثم تأكيد براءة الإسلام منها، والتشديد على أن ظاهرة التطرف المضاد «الإسلاموفوبيا» التي تنتشر في الغرب كرد فعل على ما يقع من أحداث قدمت للمتطرفين خدمة كبرى عندما اتخذوها ذريعة لتبرير أفعالهم الإجرامية.

 لم تكتف الرابطة بإقامة المؤتمرات في مقرها بمكة المكرمة، بل إن العمل انتقل إلى الآخر المستهدف في مكانه، بأسلوب جديد، لم يقتصر على أن نقوم بالحديث عن أنفسنا والدفاع عن ديننا، وأن يكتفي الآخرون بدور المستمع، بل أتيحت لهم الفرصة الكاملة للحديث وإفراغ ما في صدورهم من هواء ساخن، وإن كان أحيانا في شكل اتهامات، فلا ضير في ذلك ما دمنا قادرين على تفنيد اتهاماتهم، وإثبات موقفنا ونصاعة صورة ديننا، والتبرؤ من الممارسات الخاطئة التي ارتكبها بعض المحسوبين على الإسلام، وهو منهم براء. والمتابع لسلسلة المؤتمرات التي عقدتها الرابطة خلال العامين الماضيين، خارج المملكة، والتي تؤصل للاعتدال في الإسلام ونأيه عن العنف والتطرف، يجد أنها تقارب الثلاثين مؤتمرا، شاركت فيها نخب من العلماء المسلمين من كافة دول العالم، ووجدت اهتماما منقطع النظير في الدول الغربية، وإشادة كبرى من الجهات المشاركة، لدرجة أن الاتحاد الأوروبي اتخذ كلمة الدكتور العيسى التي ألقاها على مسامع نوابه كوثيقة مهمة للعمل بموجبها، كما منحته مؤسسة غاليليو جائزتها العالمية للعام الجاري.

 تلك الجهود المتواصلة أزاحت جزءا من الغبار الذي أثارته تصرفات طائشة لجماعات متشددة استغلت العاطفة الدينية لشباب لم يتحصن بالعلم الشرعي الكافي، فجندته مراكز الشر لمصلحتها. وبدأت بعض الدوائر الغربية التي كانت لها آراء مسبقة خاطئة عن الإسلام في البحث عن حقيقته، وعاد الحوار ليكون أساس التعامل بين أتباع الأديان، بعد أن اتفق العقلاء من جميع الجوانب على الوقوف عند القواسم المشتركة، ومنح الأولوية للتصدي لآفة الإرهاب التي باتت تشكل خطرا يهدد الوجود الإنساني بأسره. وتتويجا لمساعيه المتصلة لتأصيل منهج الوسطية، منح مركز الأمير خالد الفيصل للاعتدال جائزته لهذا العام للدكتور العيسى، عرفانا بما ظل يقدمه، ليس في رابطة العالم الإسلامي فقط، بل من خلال إشرافه على مركز الحرب الفكرية التابع لوزارة الدفاع، الذي استطاع في فترة وجيزة من عمره تحقيق إنجازات ضخمة، ليس على مستوى الداخل السعودي فقط، بل على الصعيد العالمي، حيث يركز على التصدي لمزاعم الإرهابيين، عبر تغريدات مدروسة بطريقة علمية، تنشر بكافة لغات العالم الحية.

 إن كان من كلمة أخيرة، فهي أن الدكتور العيسى استطاع بخطابه المتزن، وأسلوبه العملي إيضاح الوجه الحقيقي لبلادنا على كافة المنابر، وإيصال خطاب الاعتدال السعودي إلى العالم الخارجي، وتأكيد أن المملكة وإن كانت من أكثر الدول التي ابتليت بآفة الإرهاب، فإنها الأكثر تصديا له، والأنشط في مواجهته، وقد حقّقت في سبيل ذلك الكثير من الإنجازات، وتمكنت من استئصاله من أراضيها، ولم تقف عند هذا الحد، بل أخذت على عاتقها عبء مساعدة الآخرين في الوصول لذات الهدف، عبر تأسيسها للتحالف الإسلامي لمواجهة الإرهاب، ووضعت كافة إمكاناتها لتحقيق ذلك، وأبدت استعدادها لنقل تجربتها الناجحة للآخرين، وقدمت مساعدات كثيرة وصلت حتى الدول الغربية الكبرى، وأسهمت في إحباط عمليات إرهابية في دول أوروبية، بتقديم معلومات دقيقة. وهي في سبيل تصديها للإرهاب والقضاء عليه بصورة مبرمة لم تعتمد فقط على العامل الأمني، بل اتخذت الفكر سلاحا رئيسيا لتحقيق تلك الغاية، إيمانا منها بأن المشكلة فكرية في المقام الأول، قبل أن تكون أمنية.