ينبع التي فاضت أغنياتها أودية، على امتداد الساحل الغربي، وتدفقت لتعم كل المدن السعودية لكون الطرب الينبعاوي فنّا أصيلا يستحق أن يُشرّف الوطن، ويشرف متذوقي الفنون الأصيلة على امتداد المعمورة.

الأغنية الينبعاوية تستحق أن ينسج حولها الحديث الطويل. إن رنة وتر سمسميتها، تستطيع أن تعود ببحارتها إلى ليالي الأنس ليصدح عازفوها بـ:

«?يا ليلة الأنس متعودي لنا… ?

كل(ن) حبيبه بجنبه إلا أنا…

مسيكين أنا يا عيني قلبي ما صبر».

هذه الأغنية التي قيل إن بليغ حمدي استنسخها من الفولكلور الينبعاوي ليقدمها بصوت سميرة سعيد.

البحر، هو من أهم الوسائل في تبادل الثقافات واختلاط بعضها بالآخر. فالبحارة يُبحرون للتجارة والصيد، وفي أوساط البحر تصبح وسيلة التسلية الوحيدة على المركب هي الموسيقى والغناء، وترتقي فكرة التسلية الموسيقية والغنائية لتصبح وسيلة تشجيع وتحميس كل من على المركب للعمل وشد الهمة، فتظهر مواويل الخليج العربي التي يصدح بها «النهام»، وهو الشخص المرافق للبحارة على ظهر السفينة التي تقلهم إلى عرض الخليج العربي لصيد اللؤلؤ، وأغاني الصيادين والسمسمية على ضفاف البحر الأحمر، تجمعهم المواويل البحرية على اختلاف الألوان شرقا وغربا.

الموال الينبعاوي له نمطه الساحر الموغل في الحزن والوجد والشجن. يتميز الموال الينبعاوي بمحاكاته للواقع، من ناحية الكلمات التي يمتزج فيها كثير من المعاني التي لا تخلو من المشاعر المحببة للنفس.

الفن البحري علاقته وطيدة بالبحر وأهازيجه ورقصاته وأنماطه الموسيقية، الخاصة بالمناطق الساحلية الذي يعتمد على الرتم السريع في ألحانه، وبالكفوف والصفَقَة الخاصة بجموع البحارة التي تنم عن الاتحاد والمشاركة، للتغلب على مصاعب الصيد ومخاطر البحر.

يعتقد البعض أن الطرب الينبعاوي له علاقة باللون الغنائي المصري للشبه في إيقاعاته وجمله اللحنية مع الأغاني والإيقاعات المصرية، بينما الواقع هو أن الفن الينبعاوي فن مستقل من عدة نواحٍ، كاللحن والإيقاعات والتفاعل بصفقات الكفوف الخاصة بسواحل شبه جزيرة العرب.

ولو نظرنا إلى كلمات الأغنية السابقة «ليلة الأنس»، لوجدنا مثلا «كل(ن)، مسيكين، ماصبر»، والتي تتجلى فيها روح الجزيرة العربية وليس غيرها.

لا ننكر أن هناك تشابها موجودا في بعض الكلمات والألحان، بيْد أن مرد ذلك يعود إلى أن السفن كانت تتنقل على البحر الأحمر، بين الضفة الموالية لشبه الجزيرة العربية والموالية للسويس المصرية، وكان من على متنها يتسامرون خلال تلك الرحلات البحرية، وفي طريقهم يعزفون السمسمية، وفي تلك الأثناء يستمعون لأغانٍ مصرية ويحاولون محاكاتها على الإيقاعات الينبعاوية الخاصة بهذا اللون.

إن الفنون تُصبَغ بالمكان، خلال الكلمات والإيقاعات الموسيقية والإضافات الحركية المعينة، وعلى أثر ذلك تتحول إلى نمط شعبي يخص تلك المنطقة وحدها، مع الحفاظ على الكلمات واللحن.

فمثلا، نجِدُ التصفيق شيئا جوهريا بجانب الإيقاع، إلا أنه أكثر أهمية في السواحل لكون غالب وجودهم على ظهور القوارب والسفن، بينما الحركة السريعة في الفولكلور الجبلي بخلاف نظيره في المناطق الصحراوية المتمثلة في العرضة والسامري.

إن الاشتباك مع الثقافات المجاورة وغير المجاورة ودمجها، مع الحفاظ على الهوية، يُنتج أنماطا جديدة وجميلة كالطرب الينبعاوي، على سبيل المثال، الذي رغم ما قيل عنه من اختلاطه بفنون مصرية وربما شامية، إلا أنه ما يزال يحافظ على خصوصيته الفنية الخاصة بينبع وأهلها، رغم وجوده في أماكن كثيرة.

ومهما قيل، فإن الموسيقى- في النهاية- ليست لها لغة، بل ولا تعترف بالحدود البشرية أو المكانية، إنها تُبحر عبر الزمان والمكان، تؤثر في اللحظات والأزمنة والثقافات وتتأثر بها جميعا، تختلط بالأماكن حتى لكأنها مولودة هناك، تستطيع تغيير جلدها ولونها بيد أنها تحافظ على قيمتها الفنية، حتى لا تستطيع أن تميز أين وُلدت.

ومع كل رحلة للإنسان إلى حيث أماكن جديدة، تنتقل معهم موسيقاهم وتراثهم الفني، لتختلط بين أجناس البشر المتباينة.

?اشتقنا يا حلو والله اشتقنا.. لكن الزمان مفارقنا.. ?

ياما ياما وياما تعاهدنا.. وبنار الشوق تلوعنا،

 يا حلو اشتقنا والله اشتقنا…