يقول الإمام الماوردي في كتابه الشهير (أدب الدنيا والدين)، ص: 39: «قد قال بعض الحكماء: العلوم مطالعها من ثلاثة أوجه: قلب مفكر، ولسان معبر، وبيان مصور؛ فإذا عقل الكلام بسمعه، فهم معانيه بقلبه، وإذا فهم المعاني سقط عنه كلفة استخراجها، وبقي عليه معاناة حفظها واستقرارها؛ لأن المعاني شوارد تضل بالإغفال، والعلوم وحشية تنفر بالإرسال، فإذا حفظها بعد الفهم أنست، وإذا ذكرها بعد الأنس رست..»..

تعمدت ذكر الاقتباس الماضي، لأني وجدته خير معبر عن أهمية الخطاب الديني، ودوره، ودور التخاطب بالعموم في ضبط واقع الناس، وتحقيق آمالهم؛ والآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، والأقوال المأثورة في هذا الباب لا تعد ولا تحصى، ومن ذلك قوله سبحانه: {لا خير في كثيرٍ من نجواهم إلا من أمر بِصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الكلمة الطيبة صدقة»، و«املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك»، و«إذا أصبح ابن آدم، فإن أعضاءه تكفر اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا»، وكل هذا وغيره يجعلنا على ثقة من أهمية الضوابط التي ينبغي مراعاتها وعدم تجاوزها، كالاقتصار على قدر الحاجة، وتخير الألفاظ، ومراعاة فقه النصوص، وجمع المرويات على معنىً مشترك، وربط مقاصدها بالواقع الحياتي، ولا بأس ابدأ من صياغة عناوين جديدة للمسائل المعاصرة، والمسائل التي تشغل أفكار الناس، وقد تختلط عليهم، ولا بأس أيضا من جمع النصوص التي يوجه إليها الطعن، وتبيين موقف العلماء منها، وتوضيح كيف يجب أن يفهمها المتعرض لها..

اليوم، لا يمكن إلا أن يقر المتعمق في الحالة الشرعية بأن أسباب عدم القدرة على توصيل الفهم الصحيح للدين عوامل كثيرة، وربما يكون من أبرزها ثلاثة أمور هي: قلة التحصيل المعرفي، والضعف العلمي، وغياب الفهم العقلي، وغير عيب أن نقول ذلك، وأن نضيف عليه، التقاعس عن القيام بتنقية الموروثات المكتوبة من الغموض الذي فيها، أو مما ضمته من معارف ساهمت في اضطراب الفهم، وبلبلة الفكر، وفتحت أبواب التشكيك على مصراعيه، وفي كل أنواع العلوم الدينية..

الناس اليوم تشكك في الأحاديث، وفي التفاسير، وفي الفقه، وساعدهم على ذلك الأمور الثلاثة التي قدمتها آنفا، وهو ما يستدعي مخاطبتهم بما ينفعهم وبما يطمئنهم، ولو أدى ذلك أحيانا إلى إخفاء وكتمان بعض المعارف عنهم، وفي ذلك يقول القاضي عياض، في كتابه (الشفاء بتعريف حقوق المصطفى) 2/560: «ذكر بعض من ألف في الإجماع إجماع المسلمين على تحريم رواية ما هجي به النبي، صلى الله عليه وسلم، وكتابته وقراءته وتركه متى وجد دون محو، ورحم الله أسلافنا المتقين المتحرزين لدينهم، فقد أسقطوا من أحاديث المغازي والسير ما كان هذا سبيله، وتركوا روايته إلا أشياء ذكروها يسيرة وغير مستبشعة على نحو الوجوه الأُول، ليروا نقمة الله تعالى من قائلها، وأخذه المفتري عليه بذنبه..»، وهذا المنهج في ضبط المخاطبة وربطها نفتقده كثيرا اليوم، ولخصه عنوان المقال ــ ذكره الخطيب البغدادي في كتاب (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) عن ابن معين 2/320 ــ ومعناه أن تحصيل العلم وإن كان مطلوبا، إلا أن نشره يقتضي أن يُختار منه ما هو الأنسب لدين الناس ودنياهم.