لا يمكننا التغافل عن ظهور مشاعر في غاية السلبية ضد الحجاب الإسلامي في أوساطنا الإسلامية، وكذلك في غيرها من الأوساط حول العالم، بما فيها تلك التي تنادي باحترام الحريات الدينية والخيارات الشخصية.
فلماذا يظهر الحجاب وحده وكأنه شيطان مرعب وسط شريحة واسعة من المتصالحين مع جميع أنواع الأزياء والمعتقدات؟!
إن الإجابة السائدة عن هذا السؤال هي: أن ذلك نتيجة مؤامرة حاكها الغرب الحاقد ضد الإسلام، لإفساد المرأة المسلمة.
ولكن، تقبُّل إجابة بهذه السطحية أصبح صعبا في عصرنا هذا الذي تُعدّ مراجعة الأجوبة المعلبة التي تقدمها النخب للعامة من أبرز سماته.
فالصلاة لم تُشيطن، كذلك الزكاة، وكلاهما له قيمة أكثر جوهرية في الإسلام من الحجاب، فلماذا لم تفلح المؤامرة إلا مع الحجاب؟!
حتى لو كان الدور الذي تلعبه هذه المؤامرات المتخيلة رئيسيا ومؤثرا جدا، فعلى الأقل يجب أن نتقبل أن هناك عوامل داخلية تتحمل جزءا من مسؤولية نجاح هذه المؤامرات، ومسؤوليتنا عن هذه العوامل الداخلية لم يتم استشعارها حتى الآن!.
لا شك أن العوامل التي شيطنت الحجاب - سواء كانت داخلية أو خارجية - فهي متعددة كحال كل الظواهر الاجتماعية، ولكنني أَجِد أن هناك عوامل رئيسية في تشويه صورة الحجاب في العالم، منها: تقديم الحجاب في الخطاب الدعوي وكأنه شرط من شروط حماية المرأة من الإيذاء وليس كعبادة ترتجي منها المؤمنة مثوبة من الله، وذلك خلال تبرير جرائم إيذاء المرأة بكونها غير محجبة.
فلا شك أن تبرير إيذاء المرأة بعدم تحجبها، يجعل الحجاب دافعا من دوافع الإجرام، إذ إنه يخفف اللوم - إن لم يكن يزيله - عن المجرم ويسهم في زيادة اضطهاد الضحية اجتماعيا لمصلحة الجاني، وهذا ما قد يمنعها من ملاحقته قانونيا، وهذا يضعف قدرة القوانين الرادعة على تحقيق غايتها.
لا شك أن هذه صورة غير مشرفة للحجاب، وليست هي التي أتى بها القرآن ولا السنة. فالمُراجع للنصوص الشرعية المتعلقة بالحجاب، لا يجد أيّا من ذلك، فلم يقل الشارع إن العلة من الحجاب منع افتتان الرجال، ويعدّ إلصاق هذا التعليل دون دليل افتراءً على شرع الله.
يوقعنا هذا الافتراء على دين الله في عدد من الإشكالات، منها فتح باب تعليل أحكام الشريعة بلا دليل، والتناقض الذي سيترتب على العجز عن تعليل سبب امتناع الإسلام عن فرض الحجاب على الأمة التي لا يوجد ما يثبت أنها أقل فتنة من الحرة.
وعلى العموم، فمجمل القرآن والسنة يعامل الرجل البالغ كمكلف يتحمل وزر ما يفعل، وليس فيهما ما يلمح إلى تبرير هذه الجرائم لا بالفتنة ولا غيرها، بدليل عدم تأثير مظهر المرأة على الحدود المقدرة شرعا ضد الرجل، وهذا يعني أن تبرير الجرائم التي يقوم بها الرجل بالفتنة، فيه اتهام ضمني لشرع الله بعدم العدالة، إذ إن الشارع لم يضع اعتبارا لهذه الفتنة عند تحديد قدر العقوبة التي يستحقها الرجل.
نطالع - مؤخرا - بيان الأزهر الأخير الذي أوضح فيه أن التحرش جريمة لا تبرر، ونتمنى أن يكون هذا سلكا لبقية نخب الخطابات الإسلامية؛ كي تشيع هذه الثقافة ويتخلص دعاة الحجاب من وصمة التحريض على الإجرام التي علقتها بهم الخطابات السابقة.
ومن أبرز العوامل التي أسهمت في تشويه صورة الحجاب، هو تقديمه كفريضة، على الولي أن يفرضها على محارمه، بدلاً من الاكتفاء بالخطاب المباشر للمرأة المكلفة، الأمر الذي يجعل القول إن الحجاب خيار يتناقض ازدراؤه مع احترام الحريات الشخصية قولاً مشكلاً، فالحجاب لم يعد اختيارا إن كان شيئا يفرضه الولي وليس خيارا للمحجبة!
تسبب ذلك في جعل الحجاب رمزا للفرض والإجبار، بدلا من أن يعامل كعبادة كغيرها من العبادات التي يكون خيار فعلها أو تركها متعلقا بالمكلف وحده.
وفي الحقيقة لا تفهم في مصلحة من يَصْب ذلك! فالعبادات عموما يُشترط في قبولها النية الخالصة، والإجبار عليها لا يعدم فائدتها فحسب، بل يعرقل حصول هذه العبادات بنية خالصة مستقبلا، إذ إنه من الثابت الدور الذي يلعبه الفرض والإجبار في تنفير الإنسان مما أجبر عليه.
لا شك أن هذا من أكثر الأسباب جوهرية، فهو المقدم دائما في جميع خطابات الكراهية الداخلية والخارجية ضد الحجاب، ونحن مهما عارضنا تلك الخطابات فإننا -للأسف- لن نستطيع أن نشكك في مصداقية هذه الدعوى تحديدا، وفي رأيي أن المعالجة يجب أن تبدأ في محاربة المبررات التي يُحارَب لأجلها الحجاب، لتنتهي تلقائيا تلك العدائية ضد الحجاب.
في رأيي، لقد بات ضروريا على الخطاب الإسلامي في عصرنا هذا تحرير الحجاب من وصمتي الإجبار، وتبرير الإجرام؛ ليس لإنقاذ الحجاب وحده، بل لإنقاذ صورة الخطاب الإسلامي كاملا.
مشاعل الغديفي