يمكن للمقالة أيضا أن يكون لها أثر نشيد تاريخي، شجن مطار، ووهج مدينة بأكملها. صحيح أن هذا النوع من المقالات يلفظ أنفاسه في رجّة السرعة التي تعصف بالعالم، وصعود المجادلة والخصام والثرثرة، لكن اسما هنا وهناك، ما زال يتشبث بالصارية، ويغني من القلب.
كتب مرة الأستاذ القدير سمير عطاالله مقالة، قبل سنوات، بجريدة الشرق الأوسط، ما زلت أتذكرها، بعنوانها وقصتها ولغتها وجناحيها، وأثرها الشفيف في نفسي، عدت إليها ووجدتها بفرح. كان اسمها «على قمة جبل الريح». وإليكم ملخصها:
شاعر روما وفرنسا الكبير، بترارك، بعد أن جاوز الأربعين سنة شعر بضياع عمره، فاعتزل وغادر المدينة، قاصدا جبل «فونتو»، برياحه التي لا تهدأ، أراد أن يرى ويفهم، من أعلى قمته، كيف ستبدو أراضي فرنسا الممتدة، ونهر «الرون» يتلوى بينها، وهناك راح يكتب رسالة إلى والده: «أبتاه العزيز، غريبٌ أمر هذا الإنسان، يطوف الأرض معجبا بأعالي الجبال، منبهرا بأعالي الموج، صاغيا إلى صوت المحيط، متأملا حركة النجوم، لكنه لا يتوقف لكي يتطلع إلى نفسه وداخله، لماذا يرفض اللقاء مع ذاته القريبة؟ هل لأنه يخشاها؟ هل لأنه يخاف أن يفاجئه بعض ما فيها؟ ألا يدرك أن قمة هذا الجبل ليست شيئا أمام الذرى التي يمكن أن يصل إليها فكره؟».. يا رب العالم!
هذه المقالات ما عادت تُكتب، عطاالله ومن تبقى معه، في العراء. لا عدّة لديهم سوى الصهيل، وركض البلدان، وعبور المروج والذاكرة، وقصائد العالم، هذه الأحصنة، الجامحة والأخيرة، أرحم من يقصفها قرّاء الحروب، المهتمون بإحصاء الجثث، المعتاشون على الضغائن، وسباب الدين والطائفة، ونزاعات الدول والدماء، وكل الباقي من استعمالات الغياب والقهر، البضاعة التي يستلمونها يوميا وبالجملة، أمّا مخابيل الشهرة التقنية، نجوم الميديا المدججة بالخواء وقلّة العقل، فهي تطعم مئات الألوف والملايين من صبيانها بمثالها المختل، تشوّقهم للاستمرار في عزومة الهراء، الهراء العابر للشعوب. وعلى مدار الشاشة، وعبر محيط هائج من الاتصال، وتطبيقات الهاتف، الذي لم يعد من أذكياء سواه!.
أعتزّ بالصديقين في جبال الرياح؛ مجاهد عبدالمتعالي، وعلي سعد الموسى، لقد صمد ثلاثتنا في هذه الجريدة، منذ الشهور المبكرة لصدورها عام 2000، وحتى اليوم، ما زلنا نجري محاولات الفكرة، وهموم الأيام، والجمال، معنا القليل من الذخيرة، والكثير من الآمال!.
حسنا، هذه الزاوية ستمضي في حال سبيلها، والأسبوع القادم في طريق أخرى.