في اليوم العالمي للمعلم، والذي يوافق الخامس من أكتوبر من كل عام، يطيب الحديث عن المعلم آمالا وآلاما.
فإذا كنا ندعو إلى تحسين ظروف عمل المعلم، وتخفيف بعض الأعباء عليه ليتفرغ لمهمته التربوية، وإلى تطوير البيئة المدرسية، كي يقدم أفضل ما عنده، وإذا كنا ندعو إلى المحافظة على مكانته وحمايته من الاعتداءات غير المسؤولة، فالمعلم اليوم مطالب بمهام أخرى غير «التدريس»، مع أن بعض المعلمين قد قصر مهمته على التدريس.
فكما ذكر العالم ابن جماعة «ليست وظيفة المعلم تعليم التلاميذ بعضا من العلوم والمعارف فحسب، بل وظيفته بالدرجة الأولى مساعدتهم على تحقيق ذواتهم» انتهى.
المعلم اليوم -أكثر من أي وقت مضى- مطالب في ظل التحديات الأخلاقية أمام تلاميذه، والمصادر المتنوعة التي تشارك الأسرة تربية أبنائها، أن يربي طلابه، كيف يوظفون قدراتهم، كيف يستفيدون من أوقاتهم، كيف يحافظون على قيمهم ومبادئهم وهويتهم، كيف يحبون وطنهم، كيف يتحدثون عن مشكلاتهم ليجدوا من يساعدهم على حلها، ومطالب بأن يعمّق تواصله بالمجتمع المحيط بالمدرسة، وبتنمية شخصيات تلاميذه بالأساليب التربوية، بعيدا عن أساليب العقاب، كي يسهم في صناعة جيل له رؤية، ثم عليه أن يدرك أن مرحلة المعلم الذي كان «يصب الدروس» على مسامع التلاميذ قد انتهت، فلم يعد مجديا لتلميذ يعيش ثورة انفجار المعلومات، ويتنفس التقنية صباح مساء، ولا يزال معلمه يغرق سمعه بالعلوم، ولا يترك له فرصة ليبحث، يناقش، يفكر، يبدع، يضيف، ينتقد، يسأل، أو لا يتيح له فرصة أن يسهم في إنتاج المعرفة، ولهذا آن للمعلم التقليدي أن يتحرر من رهن نفسه داخل الطرائق التقليدية التي تحيل التلميذ إلى «جهاز تسجيل» ليحفظ ثم يردد بطريقة ببغائية ما درسه.
ولعلنا لو بحثنا في أسباب ملل تلاميذنا من المدرسة، وكراهيتهم لها، وترددهم في الذهاب إليها كل صباح، أو بحثنا في أسباب غيابهم عن المدرسة؛ لوجدنا أن «تقليدية المعلم» في إدارة التعلم داخل فصله، وجموده، وعدم تنويعه أساليب تدريسه، سبب رئيس في ملل التلاميذ ونفورهم من المدرسة، فصعب جدا أن يبقى التلميذ 6 ساعات يوميا مع معلم لا يدرّسه إلا بطرق عقيمة، وأساليب ممّلة، ليست فيها حركة ولا نشاط ولا وسائل تعليمية، وقد يؤدي بعض المعلمين دروسه، وهو يجلس على كرسيه، صعب جدا أن يتحمل التلميذ ذلك.
التلميذ اليوم بحاجة إلى أساليب تدريسية نشطة ومشوّقة، تحقق له «متعة التعلم»، أساليب تعتمد الأنشطة الحركية والترفيهية، التي تسمح له أن يتعلم بحرية تحفزه على أن يحاور، يتحرك، يلعب، ويشترك مع زملائه بلا خوف أو قيود، وبحاجة إلى أن يشعر أنه داخل بيئة تعليمية آمنة، فلا يجد جلادا أمامه يعاقبه لأنه لم يعرف حل مسألة، وأن يجد شغفا في التعرف على البيئة الخارجية، حين يأخذه معلمه في رحلات ترفيهية، وزيارات علمية خارج المدرسة، ستكسبه مهارات وخبرات جديدة تعمل على تهيئته للحياة.
وسط هذه الأجواء، لن يحس التلميذ بأي شعور أو ضيق أو ملل، بل سيجد للتعلم متعة، وهو يتنقل من موقف إلى موقف، ومن موقع إلى موقع، وهو يشارك في صناعة المعلومة، ولا يتلقاها طوال الوقت وهو يجلس على كرسيه، وسيشعر أن معلمه قادر على إشباع حاجياته السمعية والبصرية والتعبيرية، ويحفّزه على السؤال والنقاش والحوار مع زملائه ومع معلميه، ويعينه على تحويل أفكاره إلى مشاريع، وأحلامه إلى واقع متحقق، وأسئلته إلى فكر ومعرفة ومعلومة وثقافة.
ونحن نحتفي بالمعلم في يومه العالمي، يجب أن يعلم المعلم قبل غيره أن مهنته مهنة عظيمة سامية، وجميعنا توقفنا اليوم عند الموقف العظيم لمستشارة ألمانيا السيدة أنجيلا ميركل، وهي تنتصر لمكانة المعلم، فحين أمرت بزيادة رواتب المعلمين، حاول القضاة في بلدها الاحتجاج على ذلك، والمطالبة برفع رواتبهم أسوة بهم، فكان ردها درسا للعالم لتبين مكانة المعلم وعظم رسالته، فقالت «كيف أساويكم بمن علّموكم»، وهذا الكلام يعني أن المعلم يحمل مسؤولية عظيمة، تكمن في تعليم وتربية أبناء المجتمع الذي أوكل إليه تلك المهمة، وأمّنه على أبنائه، ولهذا فلا يمكن للمعلم -مهما بلغت خبراته وتجاربه، حتى شهاداته- أن ينجح في مهمته تلك، ما لم يكن لديه شعور بعشق ما يقوم به من مهمة، وشغف بما يقوم به كل صباح، وقد حظي بشرف الانتماء إلى مهنة التعليم، مهنة الأنبياء والرسل من قبل، عليهم أفضل الصلاة والتسليم، وقد قيل في حق المعلم «أعلمت أشرف أو أجل من الذي... يبني وينشئ أنفسا وعقولا».
لهذا، حينما نقول إنه لا مهنة تساوي مهنة المعلم في الشرف والرفعة والسمو، فهذا يعني أن على المعلم أن يرتقي بمواقفه، بأخلاقياته، بلغته، بتصرفاته وسلوكه، إلى مرتبة تليق به، ولا تجعله يوما ما في موقف يقلّل من قيمته.
فعلى سبيل المثال، لم يكن المعلم في وقت سابق يقوم بمهنة سوى مهنته معلما ومربّيا لأبناء مجتمعه، ولذا يسمى تقديرا له «مربي»، فهو من منزله إلى مدرسته، عشقه الكتب والراديو والثقافة والمطالعة، لم يكن لدى المعلم مهن أخرى يقوم بها إلى جانب مهنته، كما نشهد اليوم بعضهم، وهم قلة، وقد غاص في العقار والسوق، وانغمس في التجارة، فخلط بين مهماته كمعلم وتاجر، حتى ظهر تقصيره في مهمته الأصلية معلّما، حضورا وانضباطا نتيجة الجهد والوقت اللذين قد يُستنفدان في عمله الآخر.
سيقول قائل، من حقه أن «يبحث عن مصدر رزقه»، فنقول: إلا المعلم، فهو صاحب رسالة، ويمتلك دورا مؤثرا في مجتمعه الذي يقدم فيه على أنه أنموذج وقدوة لطلابه، والعمل في مجال آخر يؤثر على مكانته كمعلم، وعلى توازنه النفسي والاجتماعي والانفعالي.
ختاما، أشعر بسعادة للتوجه القائم لدى وزارة التعليم التي تضع المعلم في أولى أولوياتها، لإيمانها بأن لا فائدة من وجود المباني والتجهيزات والوسائل التعليمية، في ظل وجود معلم متواضع، لا يستطيع توظيف مهاراته وخبراته في الارتقاء بعقول طلابه وتوظيف هذه الإمكانات.
ولهذا، فقناعتي أن وزارة التعليم لم تقصّر في منح معلميها فرصة لتطوير مستوياتهم، والتجديد في أساليبهم، والتعرف على الخبرات الجديدة، من خلال البرامج والدورات والمشاركات الدولية والمحلية، والدليل على كلامي، هو رعاية وزارة التعليم «المنتدى الدولي للمعلمين والمعلمات»، والذي أقيم في مدينة الرياض قبل مدة، ويهدف إلى تلاقح الأفكار، وتبادل الخبرات مع كل أنظمة التعليم في العالم، ومع أصحاب التجارب والخبرات، وهذه خطوة جيدة تحسب لوزارة التعليم، فالتطوير والتجديد يجب أن يبقيا هدفين لكل معلم، فهو أحد عوامل النجاح التي نعول عليها في نجاح أهداف التعليم في بلادنا، ودعمه للخطط التي ستبني نهضتنا ومشروعاتنا وأحلامنا، لتحقيق رؤية 2030، إن شاء الله، لما فيه خير بلادنا.