الصدق خير كله، الصدق مع الله، والصدق مع عباد الله، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتَب عند الله صديقا، قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، وقال تعالى (ولو صدقوا الله لكان خيراً لهم).

ومن حُرم الصدق فقد حُرم الطمأنينة، ووقع في الريبة، وقد جاء في الحديث (الصدق طمأنينة والكذب ريبة) رواه الترمذي.

فالصدق في التدين لله رب العالمين، يقتضي صرف العبادة له وحده، جلّ وعلا، لا لملَكٍ مقرَّب ولا لنبي مرسل، ولا لغيرهما من الخلق، قال تعالى ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، وأول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة، من قاموا بأعمال مشروعة، ولكن فعلوا ذلك ليُقال، يدل على ذلك قول النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد فأُتيَ به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبتَ، ولكنك قاتلتَ لأن يقال هو جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأتي به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمتُ العلم وعلمتُه وقرأتُ فيك القرآن، قال كذبتَ، ولكنك تعلمتَ ليقال عالم وقرأتَ القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال كذبتَ، ولكنك فعلتَ ليقال هو جواد، فقد قيل ثم أمر به فسُحبَ على وجهه ثم ألقي في النار) رواه مسلم، فكما ترى -أخي القارئ الكريم- عِظَم هذه العقوبة الأليمة، وهي قوله: سُحِب على وجهه ثم أُلقي في النار، فماذا يستفيد من أراد بعمله لعاعة الدنيا، وكان هدفه (ليُقال)؟ ماذا يستفيد إذا أُلقي في النار، سيفنى هو ومن كان يُرائيهم، فهم عبيد مثله، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فضلا أن يملكوا ذلك لغيرهم، وسيموتون جميعا ويُدفنون وينتهون، ويبقى الله ذو الجلال والإكرام، كما قال تعالى (كل من عليها فان* ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)، وهو سبحانه لا يقبل إلا ما عُمِل لوجهه بصدق وإخلاص.

ومن الصدق في التدين أن يكون الولاء والبراء على دين الله ورسوله، لا على الأحزاب والجماعات والأهواء، فإن من الناس -كما يقول ابن تيمية- من يكون له هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلا سيئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله. ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله.

كما أنه ليس من الصدق في التعامل مع الناس حكاما ومحكومين، الصخب والضجيج والمزايدة على الناس في حبهم لدينهم ووطنهم، وكأنه هو الوحيد الذي يحب الدين والوطن، والوحيد الذي يرد على الأحزاب والجماعات المناوئة، وهذا المسلك ليس من فعل أهل الصدق، ذلك أن الصادق يحب دينه ووطنه وقيادته، ويدافع عن ذلك بالحجة والبرهان بحكمة واتزان، ويبذل غاية جهده في ذلك، وهو مع هذا يستشعر تقصيره في حق دينه ووطنه وقيادته، ويسأل الله المسامحة والقبول، ويدعو غيره للاستقامة على دين الله، ومراعاة حق الوطن والقيادة، ويشجعهم على ذلك، ويرد على المخالفين بعلم وعدل، ويفرح بتوبة من تاب وأصلح وبيّن، ويَحذر من مسلك أهل الكذب والانتهازية والتملق، الذين لا شأن لهم إلا لعاعة الدنيا ومناصبها، فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون، وقد قال أهل العلم: إن طالب الجاه والترؤس والمنصب، ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باط?، وتغضبه الكلمة التي فيها بيان خطئه وإن كانت حقا.

فالله الله في الصدق، فإن الدنيا ومطامعها فانية، ولا ينتقل مع الإنسان إلى قبره شيء منها، لا ينفعه إلا عمله الصالح، ولا يكون العمل صالحا إلا إذا كان خالصا لله، موافقا لسنة رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ومن العمل الصالح: الصدق في التعامل مع الله، والصدق في التعامل مع عباد الله، قال تعالى (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم)، نسأل الله أن يرزقنا وإخواننا المسلمين الصدق في القول والعمل والاعتقاد.