لعلك مثلي حكى لك شيخ بدوي عن جبل قطن الذي يبعد 200 كلم عن بريدة، والذي وقع في حبه جبل يبدو أنه أنثى في الطائف، اسمه طمية، وقرر الانتقال ليسكن بقربه فخلع نفسه من الأرض ومضى نحوه، لكن جبلا خبيثا قرر الكيد لهذا الحب وعرقلة طمية ونجحت محاولته. لذا، المسافة بين الجبلين 50 كلم، والدليل عند البدوي على صحة هذه القصة أن طمية ما زالت تحتفظ بخصائص نباتات بيئة الطائف، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد ببيئة نجد.
في الواقع، هناك تفسير علمي لهذا، لكن البدو لن يصدقوه، فبالنسبة لهم الجبال والحيوان في الصحراء -وإن اختلفت سماتهم- يشاركونهم في الروح والوجع والعاطفة، لذا اشتكى البدوي القديم لسرب القطا فقال:
بكيت على سرب القطا إذ مررن بي
فقُلتُ ومثلي بالبُكاء جَديرُ
أسِرْبَ القَطا هَل من مُعيرٍ جَناحَهُ
لعلّي إلى من قَد هَوِيتُ أطيرُ
بل إنه يجعل من جَمَله شريك جريمة، وحليفا متعاونا، فالمنخل اليشكري في قصيدته الأخيرة حين هَمّ النعمان بقطع رأسه بعد أن اتهمه بحب امرأته قال:
وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري
لكن الرواة لم يذكروا: هل نُحر الجمل أيضا جراء ذنب الهوى، أم اعتبرها النعمان محاولة للاستفزاز لا أكثر؟
على العموم، هذه الشراكة اللطيفة بين البدوي وبيئته لم تتوقف عند ما سبق، بل تجاوزته إلى معنى أعمق، وإنساني عظيم جدا، جسّده الشاعر عبدالله بن عون في قصيدته «يا طير»، وكان قد سبقها بقصيدة قد تكون أهم من ألف مقال ومقال في حقوق الحيوان.
يخبر ابن عون الطائر -بعد عدة تساؤلات عن حاله- وتنقل لطيف بين صور وذكريات مرت بهما، عن أن وقت الفراق بينهما قد حان، ثم يختصر السبب بقوله:
الوقت ما تاليه معنا بزاين
والبرّ في حادور من حين في حين
أدناه مليانٍ كراتين فاين
وأقصاه ضاق وضيّقوا به هل الضين
وضاقت مناهج طيبين الضغاين
الصحراء بيئة البدوي الأول، وكل هؤلاء الشركاء من الحيوان والنبات وحتى حبات رمال النفود، في معاناة صامتة من الرعي والاحتطاب الجائر، ومن هذا التلوث غير الحضاري بقنان البلاستيك، وبقايا رحلات الاستمتاع والشواء الجائرة التي عبثت بالطبيعة حتى أغضبتها، فتحركت الرمال نحو المدن، وملأ الريح بالغبار فلم يعد تساؤل ابن الدمينة العامري ذا فائدة، إلا يا صبا نجد متى عدت من نجد... لقد زادني مسراك وجدا على وجد.