باتت مشكلة المبالغة في قيمة الديات التي تدفع في قضايا القتل هاجسا يؤرق المختصين، بسبب المغالاة الشديدة في تقدير قيمة تلك المبالغ التي تجاوزت في بعض الأحيان الخمسين مليون ريال، يذهب معظمها إلى جيوب سماسرة اعتادوا الدخول على خطوط تلك القضايا، والاستفادة من الوضع الحرج الذي يجد فيه البعض أنفسهم عندما يفاجؤوا بأن أحد أبنائهم أو إخوتهم أو أقاربهم، تورط في قضية قتل، فيتظاهر بعض أولئك الوسطاء بالرغبة في التوسط لأجل الإصلاح، بينما يتسببون حقيقة في تعميق المشكلة وزيادتها بمضاعفة المبلغ المطلوب من ذوي الضحايا. ومع أن القيادة الرشيدة سعت في كثير من الحالات إلى تشجيع مبادرات الصلح والعفو، إضافة إلى إنشاء لجان إصلاح ذات البين في مختلف المناطق، ورغم وجود العديد من المصلحين والأخيار الذين يسارعون في التوسط بين الأطراف المعنية، طلبا لرضا الله سبحانه وتعالى، ورغبة في الإصلاح، إلا أن مساعيهم الصادقة غالبا ما تصطدم بما يفعله أولئك السماسرة الذين اعتادوا التربح من معاناة الآخرين.

ومع التسليم ابتداء بالحق الذي كفلته الشريعة والقانون لأولياء الدم في التنازل عن حق القصاص نظير مقابل مالي يتم الاتفاق عليه مع ذوي الجاني، وأن القصاص من الجاني على النفس وما دونها من الجراحات حق خاص للمجني عليه أو للورثة، إلا أن المبالغات والمزايدات التي تطرأ على هذا الحق حرفته عن مساره، فأصبح البعض من ضعاف النفوس لا تهمهم الجرائم، فيرتكبونها ما داموا متأكدين من وجود من يسعى لدى أهل الخير والإحسان في فك رقابهم، وما دام هناك وسطاء انتهازيون لا يركزون إلا على تحقيق مصالحهم الخاصة، فيأخذون الأموال المخصّصة للزكاة والصدقات، والتي كان ينبغي توجيهها للفقراء والمساكين وغيرهم من المستحقين، فيتصلون على من عنده زكاة أو وقف أو مال لتخصيصها لعتق الرقاب. وبذلك يحدث توسع في مصرف واحد من مصارف الزكاة الثمانية المعروفة، والتي حددها الله سبحانه وتعالى ورتبها حسب الأولوية، فجعل الفقراء والمساكين في مقدمة المستحقين.

ولا يخفى أن هناك مساوئ عديدة لذلك، في مقدمتها أن إسقاط عقوبة القصاص بحق القتلة قد يتسبب في استهانة الناس بالدماء المصونة والحقوق المرعية، فيقدمون على ارتكاب جرائمهم، طالما كان هناك من يدفع عنهم ثمن ما يقترفونه من جرائم، والله سبحانه وتعالى يقول «ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقون». وقبل كل هذا وذاك فإن ظاهرة التجمعات وإقامة المخيمات من أجل طلب العفو، تخدش الصور الإيجابية التي تعكس أصالة شعب المملكة أمام الآخرين بأشياء بعيدة تماماً عن الدين والتقاليد.

كذلك فإن المبالغة في طلب تعويض الديات تعد إلغاء لمقاصد هذه العقوبة وتحويلها لأحد أبشع أنواع التجارة التي تدخل في باب النهي، وأكبر دليل على ذلك ما شهدناه خلال الآونة الأخيرة من فوضى وسوء تعامل في هذه القضايا، بالشكل الذي أصبحت فيه مؤشرا سلبيا يخالف مقاصد الشريعة ويتقاطع مع قيمة التسامح ومعاني العفو الذي من أجله شرعت الدية. لذلك كله تنادى كثير من المصلحين في مختلف مناطق المملكة إلى ضرورة التصدي لهذه الظاهرة المزعجة التي يمكن أن تتفاقم مستقبلا بصورة أكثر سوءا، لا سيما أن ذوي بعض الضحايا ربما يلجؤون إلى طلب مبالغ طائلة، بغرض التعجيز عن الإيفاء بها، وحتى لا توجه لهم اللائمة، ويظهروا بمظهر الطرف الساعي للصلح.

ففي منطقة نجران، على سبيل المثال، وبعد أن استفحلت الأزمة، وعانت كثير من القبائل من المشقة التي تكابدها في سبيل توفير مبالغ الديات، نادت إمارة منطقة نجران مشايخ القبائل وأعيانها ووجهاء المجتمع والمهتمين بإصلاح ذات البين إلى الجلوس والتشاور في الأمر، وتوصلوا إلى اتفاق ملزم وقّع عليه الجميع برعاية كريمة من أمير المنطقة، ونائبه يحدد مبلغ 5 ملايين ريال كسقف أعلى في حالات الدم، ومليون ريال لحالات الإصابات البليغة، ونصف مليون لبقية الإصابات، وهو اتفاق يصلح أن يكون محور انطلاق لبقية المناطق لوضع حد لتلك المغالاة التي لا تنسجم مع مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، الذي يدعو إلى إعلاء قيم التسامح، والصفح والعفو عند المقدرة وإصلاح ذات البين، كما تتعارض مع التقاليد الراسخة والمبادئ النبيلة التي قام عليها مجتمعنا السعودي الكريم، من مروءة وشهامة ونخوة.

ولعلاج هذه الظاهرة ينبغي تكامل الأدوار بين المجتمع والدولة، بحيث لا يغني أحدهما عن الآخر، فهناك الكثير من الخطوات التي يمكن أن تسهم في ذلك، فالمجتمع مطالب بإعلاء قيمنا الأصيلة التي تربينا عليها، ويمكن في هذا الصدد تكريم المتنازلين عن القصاص دون مقابل، والاحتفاء بهم في المناسبات الرسمية للمملكة لتشجيع غيرهم على الاقتداء بهم، وحث رجال الأعمال والمقتدرين لدعم لجان إصلاح ذات البين، على أن يؤخذ ذلك كجزء من المسؤولية الاجتماعية. أما الدولة فإن كثيرين يعولون على دورها في وضع حد لتلك الظاهرة، عبر سن قوانين تمنع المغالاة وتحويل الأمر إلى تجارة، والتصدي للسماسرة الذين يتربحون من معاناة غيرهم، فهؤلاء قد لا تجدي معهم مناشدة ولا رجاء، لذلك لا بد من إيقافهم بقوة القانون، فالمعاناة صارت أكبر من احتمال الصبر عليها وغض الطرف عمن يزيدون معاناة الآخرين، فهؤلاء لا يستطيعون النظر إلى ما يتجاوز مصالحهم الشخصية ورغباتهم الذاتية.