قبل أيام، كنت مع المؤرخ الدكتور خالد الكريري، في زيارة لقرية السهي بأقصى الحدود السعودية اليمنية على البحر الأحمر.
قال شيخ القرية ممازحا الدكتور ومرحبا به: لولا عبدالعزيز ما كنت الآن تتجول في قرانا هنا بسلام!، مشيرا إلى النزاعات السابقة حول المراعي والثارات القبلية قبل توحيد المملكة.
صحيح أنها مزحة، لكنها تحمل دلالتها العميقة من عرفان الجيل الثالث بالعمل العظيم الذي قام به الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في توحيد وتأسيس المملكة العربية السعودية.
في مزرعتي «الطور» يسهر معي أصحابي من مختلف قرانا في جازان، وأحيانا من عسير وجدة والرياض، حين يكونون في زيارة إلى جازان، فيراودنا أحيانا سؤال مستحق: ماذا لو لم يكن عبدالعزيز؟، كيف ستكون علاقتنا ببعضنا لو لم يكن عبدالعزيز؟
هؤلاء الأصحاب بينهم الإعلامي والموظف والطبيب والأستاذ الجامعي والمبتعث في أقاصي العالم، والتاجر المتنقل بين مدن المملكة، والتهامي والجبلي، يملؤون الليل بهجة وحديثا، وأضواء القرى والجبال تتلألأ حولنا.
هل كانوا سيجلسون هكذا بهذه المؤهلات والاطمئنان والصحبة، لولا أن في تاريخنا رجل عظيم اسمه عبدالعزيز؟.
من أول يوم، ورغم امتلاك القبائل أسلحتها، فرض عبدالعزيز الأمن، رغم شح الإمكانات، لكن لا سلاح خارج سلاح الدولة، الدولة وحدها فارضة الأمن المتساوي للجميع.
ذاق الناس حلاوة الأمن، وذاقوا معنى الانشغال بتطوير أنفسهم بدل الانشغال بالشوكات والثارات وحماية بيوتهم.
من أول يوم، فرض عبدالعزيز العلم، ففتحت الدولة مدارسها للتعليم النظامي في أقاصيها، في وقت لم تكن الإمكانات تذكر، فتحت التعليم للصغار والكبار، ووضعت لهم مكافآت مالية، كانت الدولة تعرفهم بنفسها، وكانوا هم يتعرفون على معنى الدولة بأنفسهم.
سمعة عبدالعزيز سبقته قبل توحيد البلاد، وكانوا في جازان يتوقون للاستقرار والعدل، في فترة حروب وفوضى بعد الحروب العالمية، وانعدام النظام والدولة، للدرجة التي قال عندها شاعرهم أحمد علي خديش مخاطبا قبائل جازان، ومعرّضا بنهاية الحاكم الإدريسي الضعيف:
«إذا ابن إدريس ما عنده نِجَاية
نطلب ابن سعود يعطينا حِماية
بالعدالة نستريح»
وهو ما وقع بالفعل، وعرف الناس معنى الأمن والعدل، ومعنى الدولة، قبل حتى أن يعرفوا أين تقع الرياض!.
ومن أول يوم، فرض عبدالعزيز الصحة، حسب الإمكانات القليلة المتاحة. بالأمن والتعليم والصحة بدأ عبدالعزيز بدفع أبناء البلد نحو مستقبل مختلف، فتبادلوا الأسفار والتجارة والخدمات. ويوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة، تكوّن مفهوم جديد في هذه البقعة الواسعة من العالم، مفهوم «شعب» شعب المملكة العربية السعودية.
وتكوّنت علاقة راسخة بين الشعب وقيادته، ليست علاقة سياسية ووطنية فحسب، بل علاقة وجدانية، محبة واحترام وثقة، وتضحيات، وهذا ما لا يمكن أن يفهمه خصوم يغيظهم نجاحنا الراسخ، ونجاح آل سعود في قيادة البلاد على المبادئ نفسها التي وضعها عبدالعزيز.
ننتقد نعم، نسجل اعتراضاتنا، نقول مطالبنا، نصرح بأحلامنا، لكن الدولة والنظام خطوط حمراء. الولاء للقيادة خارج المساومات والاعتراض والأسئلة، هذه الثقة والحب ثوابت في جينات البلد والناس.
العلاقة الوجدانية مع القيادة لا يساويها إلا الإيمان بأن مصلحة الجميع، الوطن والمواطن، هي في صيانة هذه العلاقة وحمايتها بكل غال ونفيس.
مصائر الشعوب ليست لعبة ولا سلعة في مزايدات السياسة، ومكاسب 100 عام من الاستقرار ليست ورقة للتكهنات والاحتمالات.
قدّم المواطن السعودي نفسه كما هو، مؤمنا بمصلحته واستقراره، وسفَح دمه على حدود الشرف وراء قيادته، ودون كل ذرة تراب من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وقدّمت القيادة السعودية نفسها كما هي، بلا مبالغات ولا ادعاءات تخالف الماضي والواقع والمستقبل.
حين نلقي نظرة حولنا ونرى الدمار والتشرد، نعرف يقينا أن مفهوم الدولة وبقاءها أهم من العنتريات والمكابرات الآثمة، وأن بقاء الدولة هو بقاء للمدرسة والصحة والأمن والمستقبل، وهذا ما لا يمكن التفريط فيه مهما تغيرت الأحوال.
أكتب هذه السطور الآن، وأبنائي وبناتي، مثل غيرهم، يجوبون البلاد وخارجها، إما للدراسة أو العمل، يسافرون وحدهم ويعودون وحدهم ويسكنون وحدهم، كلٌّ في شأنه، ويؤوبون بمنجزاتهم وأحلامهم كالعصافير في أمان إلى بيتنا في الإجازات، ويحلمون لمستقبلهم في هذا الوطن الكريم الآمن، في زمن عربيّ تحول فيه الحلم بالمستقبل إلى حلم بأن تسلم من الرصاصة التالية.
نشاهد الأخبار وآثار الحروب المستمرة حولنا، نتساءل معا: أين أصحاب هذه البيوت المدمرة؟ أين الأحلام التي كانت لأطفالهم؟ وتأتي الأخبار والصور أنهم إما ماتوا وإما ما زالوا ينتقلون بين حاجز وحاجز، وبين مدفعية ولغم أو بين موت وموت.
كيف لو انهارت الدولة؟ كيف لو لم تكن لنا دولة؟ أترك لكم الجواب.
رحم الله الرجل العظيم، وجزاه عنا خير الجزاء، وحفظ الله شعبنا وبلادنا وقيادتنا المباركة.
وكل عام والجميع بخير.