شتان بين من نام وأعين العباد ساهرة في جوف الليل تدعو له، وبين من نام ودعوات المظلومين تتقاذفه من كل جانب عسى أن تصيب منه مقتلا، وقد جاء في الحديث أن «دعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتُفتَح لها أبواب السماء، ويقول الرب عز وجل وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين»، فالمظلوم ينصره الله وإن كان عاصيا، فمعصيته على نفسه، لكن ظلمه محرم، ودعوة المظلوم مستجابة، تصعد إلى السماء كأنها شرارة، فيا ويل من وُجّهت له سهام المظلوم، فالظلم ظلمات، ومن الظلم: التجني على عباد الله، والتقوّل عليهم ظلما وعدوانا.
وقد قال النبي، عليه الصلاة والسلام: «من قال في مسلم ما ليس فيه سقاه الله من ردغة الخبال»، وهي عصارة أهل النار، فليحذر الإنسان من أذية عباد الله، وفي الحديث: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته». وإذا كان الظلم محرما في حق آحاد الناس وعامتهم، فإنه في حق الأمراء، والعلماء الراسخين، أشد جرما، وذلك لعظم مكانتهم في نفع البلاد والعباد، ولما في ظلمهم والقدح فيهم من مفاسد تعم المجتمع، ذلك أن القدح في الولاة سبب للتمرد عليهم، وبالتالي ضعف الأمن، في حين أن تعظيمهم وحفظ هيبتهم ومكانتهم سبب لحفظ الأمن، الذي هو للناس كالهواء، لا يستغني عنه أحد، والقدح في العلماء الراسخين الصادقين وظلمهم، سبب في عدم الثقة بما يحملونه من الشرع، فلا يقبل الناس حينئذ ما يقولونه من الشريعة، وإذا حصل التمرد على الشرع والأمن، ماذا بقي للناس؟
فالحذر الحذر من ظلمهم أو القدح فيهم، حتى وإن كان باسم حرية التعبير، أو الرأي والرأي الآخر كما يقولون، فالعبرة بالحقائق الثابتة، لا بالشعارات الخادعة، فالظلم عاقبته وخيمة، ودعوة المظلوم مستجابة، وقد جاء في الصحيحين أن رجلا من بني عبس اتهم أمير الكوفة سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، وقدَّم فيه بلاغا كاذبا، إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، جاء في بلاغه «أن الأمير سعد بن أبي وقاص: لا يَسيرُ بالسرِيّةِ، ولا يَقسِمُ بالسّوِيّة، ولا يَعدِلُ في القَضيّة، عندئذٍ قال سعد، رضي الله عنه: «أَما وَاللهِ لأدْعوَنّ بثَلاثٍ: اللّهمّ إِن كان عبدُكَ هذا كاذباً قامَ رِياءً وَسُمعةً، فأَطِلْ عمرَهُ، وَأَطِلْ فَقرَهُ، وَعَرّضْهُ للفِتَنِ»، وقد استجاب الله هذه الدعوة، فكان ذلك الرجل الظالم بَعد تلك الدعوة، يقول عن نفسه: شيخ كبير مفتون أصابتني دَعوة سعد.
قال عبدالملك بن عمير: «فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكِبَرِ، وإِنه ليَتعرّض للجواري في الطّرق يغمزهُنّ».
وفي رواية: «فما مـات حتى عميَ، فكان يلتمس الجدران، وافتقر حتى سأل، وأدرك فتنة المختار فقُتِلَ فيها» رواه البخاري ومسلم.
وبعض الناس قد يتورّع عن ظلم آحاد الناس وعامتهم، ولكنه يقع في أعراض الولاة ويظلمهم، وكأن الولوغ في أعراضهم مباح، وربما زيّن له الشيطان سوء عمله، وصار يعتقد أنه مأجور على انتهاك أعراضهم، متوهّما أنه شجاع يصدع بالحق، والواقع أنه في وادٍ، والحق في وادٍ آخر، فهذا الظلم وسوء الأدب، وسلاطة اللسان، والتهييج ليس صدعا بالحق، ولكنه مجاهرة بالمعصية، وحتى لو استخفى خلف أسماء مستعارة في وسائل التواصل، أو لجأ إلى بلاد كافرة، وقنوات معادية، فإن ذلك لا يجيز له انتهاك أعراض عوام المسلمين، فضلا عن ولاتهم، قال الله تعالى (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول)، وقال تعالى: (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين)، فليحفظ المسلم لسانه طاعة لله، وخشية من دعوة تصيبه بمقتل، فتشل أركانه، وتورده المهالك، اللهم إنا نعوذ بك أن نظلِم أو نُظلَم، إن هذا الأثر العظيم، الوارد في الصحيحين، المتضمن دعوة أمير الكوفة سعد -رضي الله عنه- على من ظلمه، فيه عبرة، وربما يرى فيه القارئ الكريم عند التأمل من فرائد الفوائد ما لم يخطر ببالي، ولذلك حملتُه إليه، دون تعليق مني، فربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.