كما هو متوقع، فشلت جولة المباحثات التي دعا لها المبعوث الأممي إلى اليمن، مارتن غريفيث، في جنيف، ولم تعقد في وقتها المحدد، بسبب عدم وصول وفد الانقلابيين الحوثيين، في استمرار لمسلسل التعنت الذي دأبوا عليه مع كل جولة مفاوضات يتم الإعلان عنها. ورغم ضعف مزاعم المتمردين وأعذارهم الواهية، إلا أن الهدف الرئيسي من ذلك التعنت هو محاولة رفع سقفهم التفاوضي، واستفزاز الوفد الحكومي، الذي أدرك تلك المقاصد، وحسنا فعل بعدم التجاوب معها، وتمسك بالوصول إلى جنيف في الموعد المحدد، وبقي فيها حتى أعلن غريفيث تعذر انطلاق المباحثات. وهذا الموقف المسؤول يحسب للوفد الحكومي، الذي ينطلق في تجاوبه مع المساعي الدولية من موقعه كممثل لحكومة شرعية تبحث عن استقرار وطنها وإنهاء أزمة شعبها، وليس من موقع استهتار وعدم تقدير للواقع كما يفعل الطرف الآخر الذي لم يفارق محطة التفكير من منظور الميليشيات الإرهابية الخارجة على القانون.
اللافت في الأمر أن المبعوث الدولي لا يزال متمسكا بالسير على ذات الطريق الذي سبقه إليه أسلافه، جمال بنعمر وإسماعيل ولد الشيخ، وهو نهج يقوم على التساهل مع الانقلابيين، واصطناع الأعذار لهم، وهو ما فعله غريفيث الذي أعلن في تصريح صحفي أن الانقلابيين «كانوا يودون القدوم إلى جنيف، ولكن مشاكل لوجستية منعتهم من ذلك»، وهو تصريح غريب لا يبشر بخير، فما هي الموانع اللوجستية التي حالت دون وصول وفد التمرد، لاسيما بعد توفير طائرة خاصة لهم؟ وكيف قطع المسؤول الدولي بأنهم كانوا يودون المشاركة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار التصريحات السالبة لرئيس وفدهم التفاوضي والمتحدث باسمهم، محمد عبدالسلام، الذي استبق جولة المشاورات بالقول إنها لن تشهد تفاوضا مباشرا بين الطرفين، وسوف تقتصر على الترتيب لجولة مفاوضات قادمة.
للأسف فإن مسؤولية تعثر انطلاق جولة المشاورات هي وزر يتحمله المجتمع الدولي ومنظماته الدولية، مثل الأمم المتحدة، التي أسهمت بتقاريرها المضللة، وفي مقدمتها التقرير الأخير للجنة الخبراء، في ذلك التعثر، لأنها أوحت للانقلابيين بوجود دعم دولي لهم، لاسيما بعد أن وصفهم التقرير بـ «سلطة الأمر الواقع» و«الثوار»، فظنوا أن ذلك يعني اعترافا ضمنيا بهم، ومثل هذه الإشارات الخاطئة كافية لإفشال كافة المحاولات السياسية. ويبدو أن المبعوث الجديد لا يريد التعلم من أخطاء من سبقوه، فاختار أن يمسك بالعصا من المنتصف، وقضى وقتا طويلا وهو يحاول في صنعاء إقناع الحوثيين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، وتحلى باللين أكثر من المطلوب. ورغم أن ذلك قد يبدو من أولى الصفات الواجب توفرها في الوسطاء، ومهارات التوفيق بين الخصوم، إلا أن الإفراط في ذلك يؤدي إلى اختلاق مشكلات إضافية، ويزيد مهمته تعقيدا والأزمة اشتعالا.
لذلك فإنه من الضروري للوساطة المتوازنة أن تراعي عاملا مهما، هو اتباع سياسة الترغيب والترهيب مع الميليشيات، والعمل بمبدأ الجزرة والعصا، لاسيما إذا كان أحد طرفي الأزمة مثل الجماعة الانقلابية، التي تفتقر إلى أي ثقافة سياسية، ولا تملك القدرة على تحديد مصيرها، وليس بيدها أي خيار سوى انتظار التعليمات التي ترد إليها من طهران، وكل موروثها الذي أرادت أن تحكم به اليمن هو السلاح غير الشرعي، لذلك تمارس التسويف والمماطلة وإضاعة فرص التوصل إلى حل سياسي للأزمة. أما الإصرار على استخدام ذات الأدوات التي ثبت عدم جدواها، والتمسك بالوقوف في المنطقة الرمادية الفاصلة بين الشرعية وعدم الشرعية، فإن ذلك يغري الانقلابيين بممارسة هوايتهم المحببة، ورفض التجاوب مع كل أطروحات السلام، والسعي إلى شرعنة الانقلاب والتفكير في الحصول على مكاسب تفوق حجمهم ووضعهم الطبيعي.
للأسف فإن غريفيث اختار أن يبدأ رحلته من الطريق الخطأ، وهو يجتهد لتبرير تصرفات المتمردين الحوثيين، وهو الذي تفرض عليه طبيعة مهمته وشروط نزاهته أن يبادر فورا بتحميلهم وزر الإخفاق، لا سيما أنهم غابوا عن الحضور فيما التزم الطرف الحكومي، وتعنتوا، فيما تجاوب الآخرون. وربما لا يكون المبعوث الدولي هو الذي يحدّد أصول اللعبة، فهو ممثل لأمين عام الأمم المتحدة، تلك المنظمة التي تراجع دورها كثيرا في الفترة الأخيرة، وباتت أداة في أيدي الدول الكبرى، التي تحدد تحركاتها وتوجهاتها بالشكل الذي يؤدي إلى تحقيق مصالحها، مع السماح بهامش قليل للحركة، فمواقف الدول الكبرى وتسوياتها هي التي تحدد فاعلية الوساطة وفرص نجاحها. لذلك فإن تلك التسويات السياسية والصفقات الجانبية أصبحت هي التي تتحكم في مصائر الشعوب ومستقبلها، بغض النظر عن الكلفة الإنسانية الباهظة المترتبة على ذلك. ومن هذا المنظور يبقى الشعب اليمني هو المتضرر الأكبر، بعد أن وجد نفسه أسيرا لعميل حوثي لا يفكر إلا في كيفية إرضاء سادته في طهران، ولأجل ذلك يقوم بكل ما يطلب منه، دون أن يكلف نفسه مشقة التفكير في ما إذا كانت تصرفاته تصب في مصلحة شعبه أم لا، فقد أصبح مجرد أداة هدم يستخدمها نظام الملالي لأجل استعادة إمبراطورية الفرس الغاربة.
وأيا كانت مواقف الوساطة، فإن تجارب جولات الحوار السابقة تشير بوضوح إلى أن الطرف الانقلابي كان هو المتسبب الرئيس في الفشل، بسبب التعنت الذي يمارسونه، والخلافات التي تعصف بوفودهم، ورغبتهم في كسب الوقت، للاستفادة من الهدنات التي تسبق الحوار لالتقاط الأنفاس، ولملمة الصفوف، واستلام السلاح الذي تهربه لهم إيران، لذلك تمسكت الحكومة الشرعية هذه المرة بعدم وقف العمليات العسكرية، وأن يبدي الطرف الانقلابي الرغبة الفعلية في التوصل إلى حل سياسي، وأن ينخرط بجدية تامة في المفاوضات، قبل الحديث عن أي هدنة. وهذا وحده هو الأسلوب الكفيل بجلب الحوثي صاغرا إلى مفاوضات السلام.