في مدينة "بوليوود" معقل صناعة السينما الهندية، نجح المخرجون والمنتجون والممثلون الهنود في رفع مستوى أفلامهم وجعلها حائطاً مميزاً للمبكى، تؤمه الشعوب الآسيوية المستضعفة لتندب حظها وتخفف من وطأة مصابها وقهرها وانهزامها.
اكتشفت "بوليوود" أن الشعوب الفقيرة بعلمها وثقافتها والمغلوبة على أمرها، تتهافت بشغف منقطع النظير على مشاهدة أفلام البطولة والشهامة والنشامة والحب والولاء والوفاء، التي أمرنا بها دين الإسلام ورسول السلام قبل أربعة عشر قرنا من الزمن، ولكننا آثرنا عليها التشبث بظلام عاداتنا وظلمات تقاليدنا.
من خلال هذه الأفلام يتقمص كل منهزم صورة البطل الذي لا يهزم، ويتصور كل مقهور أنه الفارس الذي لا يقهر، وكل فقير أنه الغني الوحيد الذي لا يفقر، وكل سياسي فاشل أنه الفائز الوحيد بابتسامة الدبلوماسية "الشقراء" وعطف أصحاب العيون "الزرقاء". ومع فتح ستارة الأفلام "البوليوودية" تبدأ الشعوب المقهورة في ذرف دموعها على واقعها المرير وحظها القليل.
استغّلت "بوليوود" انكفاء الشعوب المنهزمة المتباكية أحسن استغلال لتضاعف إنتاجها من الأفلام الهندية التي، في خلال ساعات قصيرة، تحوّل بؤس البؤساء إلى سعادة السعداء وتنصف ظلم الضعفاء من غطرسة الأقوياء، فأصبحت أفلام "بوليوود" حائطاً للمبكى تؤمه الشعوب في كافة أرجاء المعمورة.
العالم العربي في أمس الحاجة إلى أن يذرف الدموع على البلدان والأقاليم التي فقدناها وعلى ما تبقى من فلسطين والسودان والصومال والصحراء الغربية التي عكفنا على تقسيمها.
بسبب حيرة العالم من تخبّط أهداف الشعوب العربية وتقلّب مفاهيمهم، استغلت "الصهيونية" ضراوة صراعاتنا الداخلية وانقساماتنا "النموذجية" لإقناع العالم بأن إنشاء كيان إسرائيل في عقر دارنا جاء لصالح استقرار منطقتنا ومراقبة تحركاتنا وتأمين انسياب خيراتنا، وأن من يتعرض لهذا الكيان بالسؤال كمن يؤيد فتح ملف "المحرقة اليهودية"، وبالتالي سيواجه عقوبات العنصرية المقيتة.
وبسبب حيرة أنصاف "خبرائنا" وتقاعس "المؤتمنين" على أماناتنا في معالجة أسباب التلوث البيئي في مدننا وقرانا وتصريف مخلفاتنا وتدوير نفاياتنا، يحاول العالم إلصاق تهمة التلوث البيئي بنفطنا الخام الذي يقل تلوثاً عن الفحم الحجري بستة أضعاف.
وبسبب انكفاء "أرباب" صناعتنا وتساهلهم في الدفاع عن مصالحنا الحيوية وسمعة صادراتنا، تمادت الدول في اتهام منتجاتنا بإغراق أسواقها وفرضت ضرائبها على منتجاتنا، فأصبحت نصف مصانعنا تضحك بدموعها على نتائج عضويتنا في منظمة التجارة العالمية، وأصبح النصف الآخر يبكي على خيبة آمالهم وبور تجارتهم لتقاعسنا في صدّ الاتهامات الكيدية الباطلة عنهم.
وبسبب عمق الفجوة المعرفية لدى شعوبنا وانطفاء شموع الإبداع والابتكار في أوطاننا العربية وغياب مناهج البحث والتطوير في جامعاتنا، ارتفعت نسبة استهلاكنا من السلع والخدمات وقطع الغيار، لتخفق قلوب الغرب والشرق فرحاً على تراجع تجارتنا العربية إلى ثلث ما كانت عليه قبل عقدين من الزمن لإخفاقنا المرير في تطبيق أحكام منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى.
في أوج الإسلام، أرسل ملك الإنجليز "ريتشارد قلب الأسد" رسالته الشهيرة إلى صلاح الدين الأيوبي، يقول فيها: "أيها المَولَى، حامل خطابي هذا بطل باسل صنديد، لاقى أبطالكم في ميادين الوغى، وأبلى في القتال البلاء الحسن، وقد وقعت أخته أسيرة، وإن لملك الإنجليز رجاء يتقدم به إلى ملك العرب وهو إما أن تُعيدوا إلى الأخ أخته، وإما أن تحتفظوا به أسيراً معها، لا تفرِّقوا بينهما ولا تحكموا على عصفور أن يعيش بعيداً عن أليفه. وفيما أنا بانتظار قراركم بهذا الشأن، أذكِّركم بقول الخليفة عمر بن الخطاب، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ ".
وجاء ردَّ صلاح الدين حاسماً وفاصلاً: "إلى ملك الإنجليز، أيها الملك صافحتُ البطل الباسل الذي أوفدتموه رسولاً إليّ، فليحمل إليكم المصافحة ممن عرف قدركم في ميادين الكفاح، وإني لأحب أن تعلموا بأنني لن أحتفظ بالأخ أسيراً مع أخته، لأننا لا نُبقي في بيوتنا سوى أسلاب المعارك. لقد أعدنا للأخ أخته، وإذا ما عمل صلاح الدين بقول عمر بن الخطاب، فلكي يعمل ملك الإنجليز بقولٍ عندكم: " أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، فرُدَّ أيها الملك الأرضَ التي اغتصبتَها إلى أصحابها، عملا بوصية السيد المسيح عليه السلام".
ونحن نقرأ ردّ صلاح الدين على ملك الإنجليز نبكي بحرقة على نجاحاتنا الزائفة في مغامرات خطف المبادرات وافتراش الطرقات وإطلاق المظاهرات وتهديد الأبرياء بالسلاح والشعارات. ونبكي بحسرة على تقصيرنا الفاضح في توحيد صفوفنا وتكوين تحالفاتنا التجارية وشراكاتنا الإستراتيجية وتنمية مواردنا الاقتصادية والدفاع عن مصالحنا ومكاسبنا الحيوية. بل نبكي ندماً على شعوبنا العربية التي ما زالت تؤمن بحلّ صراعاتها من خلال القتل والدمار وتغليب الثورة والإرهاب على وسائل الحوار الهادىء والتفاوض البناء وتوفير الحجة الدامغة كما جاء في رسالة صلاح الدين الأيوبي.
نحن اليوم في أمس الحاجة إلى تعديل مسلكنا والعودة إلى منهج آبائنا وأجدادنا، فالعيب فينا.