عنوان غريب، أليس كذلك؟! ولكنّ هذا ما يحدث مع الكثيرين منّا عند التعامل مع النّص أو الخبر، لا يريد أن يرى سوى ما يؤمن به مسبَقًا! عند قراءة نص ما، هنالك عدّة عوامل تؤدي إلى سوء الفهم المقصود أو غير المقصود، والأخطاء ـ يجب أن نعترف ـ جزء طبيعي من القراءة؛ منها التسرّع أو عدم التعمّق، منها التعب أو الملل، منها الضغوط اليوميّة، منها الجهل بالمعطيات تاريخية كانت أو علمية، ومنها توقعاتنا لما سيقوله النّص أو الخبر، ومنها معتقدات أو مسلّمات مسبقة، ومنها التلاعب بالكلمات أو المصطلحات، كيف نحمي أنفسنا من ذلك؟ لنسأل أنفسنا، مَن منّا لا يريد أن يصل إلى المعلومات الصحيحة أو الحقائق؟ هل حدث أنْ قابلنا مَن أصرّ على تلقّي المعلومات المغلوطة وهو يعرف ومتأكّد أنها كذلك؟ ولكنه أمر غير بسيط وأحيانا معقّد! فلا يمكن لذهنك أن يكون متّقدا ومستَعدًّا دائما لأيّ مواجهة، ولأن العقل أحيانا يقرأ ما يريد أن يراه رغم أن المعلومة أمام ناظريه بالأبيض والأسود، نجد أننا نقع في سوء فهم، أو نجرّ لاتّخاذ مواقف واعتماد رؤى ليست لنا بالأصل!
دخلت في حوار بعد أن قرأت عنوانا لرسالة في الدراسات العليا، ما حصل أنني قرأت العنوان فورا بعد قراءة تعليق مصاحب، وما أثّر عليَّ ليس العنوان بل التعليق، فقرأت في سياق التعليق وليس في سياق مفردات العنوان وترتيبها! بمعنى أنني قرأت ما أريد أو توقّعت قراءته، وعليه فالخطأ منّي وليس من أيّ تأثير خارجي، ببساطة لأنني سمحت بذلك! وبعد التركيز والمراجعة، تراجعت عن الرأي المتسرّع واعتذرت، ثم واجهت أمرا آخر! قرأت عنوان خبر صيغ بطريقة يوحي بأن فردا قُدّم على أنه الغالبية! مجرد إضافة حرف الـ«S» بالإنجليزية والذي يحول صيغة المفرد إلى صيغة الجمع، جعل من الخبر ما يمثّل المجموعة بأكملها! هنا لن أدخل في نية من صاغ الخبر أو العنوان، ولكن ما يهمّني الدّقة والمهنية في نقل الخبر! وهاتان الحالتان مما دفعني إلى التفكير مجددا بقوة الكلمات واستخدامها مع تلقيها وتفسيرها.
لنأخذ مثلا عنوانَ خبر صحفي يتداوله الناس وينتشر، ولكن شيئا هامًّا لم يلاحظه القارئ، هو أنّ هنالك معلومات لم تذكر في العنوان ولا في المتن! كيف أو لماذا لم يلاحظ القارئ؟! عدا عن عدم المعرفة المسبقة بمعطيات الموضوع، أحيانا كثيرة نجد أن المشكلة أيضا من قبل المتلقّي نفسه؛ نجد أن لديه تحيّزا نحو الموضوع كما قدّم، ينقاد لرغبة داخلية في تقبّل ما يقدّم لأنه يتماشى مع المعتقدات أو المسلّمات، وبهذا يكون من الصعب عليه ملاحظة أن بعض المعلومات غير متوفرة، أو أن غيابها له تأثير في تمكين الفرد من تقييم الحدث بموضوعية! وهذه النقطة بالذات ما يعتمد عليه الكثيرون في إعلام اليوم؛ التحيّز لدى المتلقّي، بمعنى أن الناس يميلون إلى قراءة ما يتوقّعون قراءته، في حين لو أنه قدّمت أدلّة تناقض ذلك، يبدأ الفحص الدقيق والمراجعة أو الرّفض من الأساس دون بذل أي جهد للدّحض! والمثير أيضا أن بعضنا حينما تقدّم المعلومات حسب توقّعاتنا، لا نصرف الوقت كالذي نصرفه حين نبحث وندقّق ونتعمّق على أمل العثور على معلومات تريحنا وتتوافق مع توقعاتنا، أو لإيجاد ما يفنّد ما نرفضه بأدلّة قوية موثقة! هنالك تفسير منطقي أو لنقل: اقتصادي؛ لقد تمّ استثمار الكثير من الوقت والجهد للتوصّل إلى مستوى المعرفة والمعتقدات، وعليه فسوف تكون هناك ممانعة للتخلّي عنها عند أول إشارة اختلاف أو تناقض، لنأخذ مثلا تفكير المرء حين يواجِه نصرا، كيف تكون ردّة فعله؟ بالطبع سوف يجيّر هذا الانتصار لقدراته ومهاراته وحنكته وما إلى ذلك من مواهب، ولكن ماذا لو واجه فشلا أو نكسة؟ إن ذلك بالنسبة إليه تحدٍّ لكل ما يؤمن به عن ذاته، وعليه يبدأ بالبحث خارجها عن الأسباب، وهذا أفضل عنده من إعادة التفكير بما يؤمن بأنه يمتلكه من الأساس ويعيد تقييمه!
لننظر الآن في عامل الإثارة! في الظروف العادية حين نعيد سرد قصة أو حدث ما، على ماذا نركّز؟ على النقاط أو الشخصية المثيرة في القصة، نترك أو نحيّد كل شيء حولها، وهذا تماما ما يفعله الخبر الصحفي، يركّز على نقطة معينة ويتعدّى كل ما حولها من معلومات قد تكون في أحيان كثيرة حيوية بالنسبة للمتلقّي حتى تتضح لديه الصورة أو القضية! ولماذا؟ لأن ذكر تلك المعلومات ليس من ضمن دائرة الإثارة! يُذكَر مثلا اكتشافٌ علمي دون ذكر من هم العلماء أو ما هي خلفياتهم أو حتى تبعات أو التأثيرات السلبية أو حتى عدم إمكانية التعميم في الوقت الحاضر على الأقل! إنه خبر والسلام! وأحيانا «يُمَطّ» الخبر ويُوسّع لا لشيء فقط لضمان انتباه المتلقّي، ولا بأس من بعض الترفيه، فوق البيعة! بمعنى بدلا من التوعية والتثقيف نركِّز على الترفيه ومن ثم الترفيه! المهم أن نكون في مركز الانتباه أو أصحاب أكبر عدد من نسب المشاهدة! أمّا إن كانت هنالك مقاصد أخرى، فيصبح الأمر متعلّقا بالتوجيه وتأكيد المسار المطلوب!
ما أريد أن أوضّحه في هذه المقالة، هو أن نكون أكثر وعيًا بما يقدّمه النص أو الخبر، ألّا نتسرّع وأن نركّز، أن ننتبه أكثر لنزعاتنا الفطرية بالتمسّك بما لدينا على حساب الحقائق، قد لا نستطيع التخلّي عنها كليًّا، لكن مع قليل من التركيز نعطي لأنفسنا فرصة للتفكير، لعل ذلك يسهم في إلقاء بعض الضوء على بقعنا العمياء، قد لا نصل دائما إلى الحقائق، ولكن التحرّر من تحيّزنا، يجعلها أقرب إلينا.