تقول إحدى الصديقات:
دخلت إلى المركز الصحي قبل نهاية الدوام بنصف ساعة تقريبا، فوجدته خاليا على عروشه، فالجميع تركوا أماكنهم استعدادا للانصراف، وبعضهم انصرف بالفعل. ولأن طفلي كان يعاني من ارتفاع شديد في درجة الحرارة، فقد تمسكت بفرصتي في مقابلة الطبيبة رغم تأفف الممرضة الوحيدة التي ما زالت تجمع أغراضها استعدادا للرحيل..بل إن عاملة النظافة وجهت لي اللوم بلهجة مكسرة لأنني أعدت الطبيبة من منتصف الطريق، وجاءت الطبيبة بعد عناء..دون معطفها الأبيض وقد ارتدت حجابها، ونظرت لي من علوها وكأنما طرقت باب غرفة نومها في الثانية بعد منتصف الليل مستنجدة بإنسانيتها لإنقاذ طفلي، وأمسكت القلم بأطراف أصابعها كما لو كانت متقززة منه ومن المشهد كاملا..كما أن الممرضة عاملتني بذات الطريقة من الاستياء والتأفف وهي تقيس حرارة طفلي التي اقتربت يومها من الأربعين..
وبعد الانتهاء وجه الجميع لي رسالة مفادها ضرورة مراجعة المركز مبكرا في المرة القادمة..!!
قلت لها وماذا فعلتِ…!؟
قالت هززت رأسي موافقة وأنا أشعر في داخلي بالغيظ والانكسار من سوء التعامل..
قلت كان ينبغي أن توجهي للمركز ملاحظة ودية أو حتى رسمية إذا لزم الأمر. حتى لا يتكرر هذا الأمر مع غيرك..قالت ولماذا أنا بالذات….مالي شغل..!!
وعلى الجانب الآخر يمر عام دراسي كامل على بعض المدارس وهي لم تستلم الميزانية التشغيلية التي تكفلت الدولة بصرفها، وتعاني قائدات المدارس الأمرّين من الشح المادي الذي يحاصر مدرسة مكونة من عدة طوابق، وتمتلئ بعشرات وأحيانا مئات الطالبات، وتحتار القائدة كيف تتدبر أمرها ما بين دورات مياه تحتاج إلى نظافة لحظية، تستلزم عاملات _ يحتجن إلى رواتب منتظمة _ ومستلزمات للنظافة من منظفات ومطهرات ومعقمات، وبين أدوات مدرسية ومستلزمات مكتبية وتكريم للطالبات والمنسوبات، وإصلاحات لأجهزة المدرسة المختلفة وتفعيل للأنشطة والمناسبات، مما يضطر القائدة لأن تدفع من جيبها أو تستعين بكادرها الفني والإداري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ريثما تصل الميزانية في منتصف الصيف القادم، وعندما تستغرب من سكوت القائدة عن هذا الحال، وسبب تحملها لهذا الوضع المزري في وقت تصرف فيه حكومتنا الرشيدة ميزانية دول كاملة على التعليم، تجيبك قائلة:
ماذا تريدون أن أفعل، ولماذا أنا بالذات من ينبغي أن يحتج، ولمن أشتكي، أنا مالي شغل…!!
الفساد لا يكون في الاختلاسات المالية أو نهب الموارد العامة أو التلاعب بأموال الدولة، أو كافة أشكال الفساد المالية التي نعرفها أو نسمع عنها فحسب، بل يشمل أيضا تقصير الموظف في أداء العمل المناط به أيا كان هذا الموظف، وزيرا أم عامل نظافة.
إن اختلاس المال ليس أكثر ضررا ولا أشد بشاعة من اختلاس الوقت، أو اختلاس الكرامة عبر ممرات المركز الصحي، أو اختلاس راحة بال القائدة وهي تركض بعقلها كل يوم لتدير شؤون مدرستها باجتهادها الشخصي، لقد جرى بيننا عُرف مفاده أنه لا ينبغي أن نقطع رزق أحد، أو كما قال المثل الشعبي «قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق»، واتخذنا ذلك ذريعة للسكوت عن الخطأ، والتجاوز عن التجاوز، وغض الطرف عن المحظور، وأصبحنا نتوسل للموظف بأن ينجز عملنا، بدلا من أن نسجل موقفا حاسما يليق بنا كمسلمين، متجاهلين في ذلك أمرين مهمين:
1- أن الرزق بيد الله عز وجل وليس بيد أحد أن يقطع رزق أحد.
2- أن من ركائز الإسلام وشعائره الكبرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغيير المنكر واجب على المسلم حسب استطاعته، والاستطاعة يحددها عقله وسنه ومستوى تعليمه ونوع شخصيته، فكلما كانت أكثر نضجا واكتمالا كلما زادت فرص تغيير المنكر باليد، ثم باللسان، أو القول، وكلما ضعفت أصبح خياره الإنكار بالقلب فقط.
يذكر أنه ليس من مستويات الإنكار مهما ضعفت عبارات سلبية أو رمادية أو انهزامية مثل لا شأن لي، أو الأمر أكبر مني، أو لا أعرف ماذا أفعل، أو لمن أذهب، أو باختصار، أنا مالي شغل!