لم تكن الحياة حاضرة في نص حنَّا مينة، مثلما حضرت في نصه الأخير «الوصية»، ولم تكن الحياة كذلك حاضرةً في نصوصه كلها وفقَ سيرة تبجيلية أو احتفائية فرائحية، بل ألبسها أثوابًا بالية وأسمالًا رثة، وطاردها بموسيقى جنائزية تعصر قلبك قبل أن تعصر المعنى والحرف ليستنفد آخر قطرة ألم فيه، ويسقيك إياه بلا مبالاة.
وعلى الرغم من أن «الوصية» تكثيف معمق لمعنى الموت، يكتبه الحي نصًا ميّتًا تدب فيه الحياة حالما يستوفي ذلك الحي أنفاسه، وكأنما موت هذا حياة لتلك، فإن عبقرية حنَّا مينة الذي شاركنا الحياة جسدًا بروحٍ تهيم في عوالم أخرى، تحدث عن الموت، وما بعد الموت في نص طغت ظلاله على شمسه، وغموضه على وضوحه، ورمزيته على تلقائيته ومَحْكِيَتِهِ، ولما ارتحل رحلة لا التفات معها، ضج نصه «الوصية» بالحياة وروح الحياة وألق الحياة.
وتظل «الوصية» النص الأخير للكاتب ولو جاءت بعدها كل النصوص وكل المقالات؛ لأنها خاتمة حقيقة «الحياة»، وبداية حقيقة «الموت»، ومع هذا تبقى في حقيقتها وهم كبير، لأنها مجرد «نص/محاولة» أخيرة للبقاء على قيد الحياة رغم الموت، كأثر أخير شاخص باق كشاهد قبر لا يندثر.
كتب الراحل وصيته بخط يده قبل عشر سنوات وكأنما يستعجل الموت الذي خشي ألا يأتي: (... وقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه «لكل أجل كتاب»).
شبعت من الدنيا حتى ظننت أن الموت لن يأتي، هكذا يصف علاقته بالحياة ويمد من هذا الوصف سببًا دقيقًا ليبقى على صلة مع الموت الذي بات يطلبه على مدى عقدٍ من الزمان «لكل أجل كتاب».
كان سعيدًا في الحياة بشقائه ومعاركه مع الشقاء، وعلى شاكلة عناوينه المحلقة في رواياته قال في نصه الأخير: (... لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذورٌ للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين)، هذا الحرف المنسوج من نور، يذكرني بثنائياته التي يحيكها على مغزل من غيم ومطر: (الشراع والعاصفة/ الأبنوسة البيضاء/نهاية رجل شجاع /الشمس في يوم غائم /الربيع والخريف /فوق الجبل وتحت الثلج / امرأة تجهل أنها امرأة/ شرف قاطع طريق).
تماهى الراحل مع شقائه إلى درجة التمازج، وفضل التواري، خلف البساطة والتعمية والتعتيم على خبر يفضح نفسه وليس بيد أحد إخفاؤه، وهل يخفى موت رجل شجاع، ولو كان عراب البؤس والشقاء: (... عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي في أية وسيلةٍ إعلاميةٍ، مقروءةٍ أو مسموعةٍ أو مرئيةٍ، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي...).
أكد شقاءه وبؤسه في أن أحدًا لم يعرفه في حياته، وسيعرفونه بعد موته فقط، وهكذا كل الأموات، بموتهم تتضح حقيقة واحدة فقط هي: أننا لم نعرفهم، لا أجزم أنني هنا فهمت المعنى الفلسفي العميق الذي رامه الراحل الكبير من (عبارته/ الوصية) التي يقول فيها: (... وليس لي أهلٌ، لأن أهلي جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا عليَّ عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية).
يُشيد حنَّا مينة في نصه الأخير بيده وساعده ويشكرهما كنعمة، ومنة وفضل، فلا مكان للحظ بشقيه الحسن والسيئ في حياته ومسيرته، أو هكذا حسم أمره، وهكذا هم الكادحون الذين بدؤوا من الصفر بل ومن تحت الصفر بكثير، حتى سبقوا أولئك الذي قاربوا التمام من لا شيء، إما لسُلَّمٍ ذهبي متحرك أو عبر جسرٍ ممرد من قوارير، لذا بدأ جملته بأنه غير عاتب على أحد، أو معاتبًا أحدًا في شيء لا يملكه سواه؛ لأنه هو من صاغ حياته بيده بلا تعطيل أو دفع أو تدخل من أحد، وهذا يعني أن الراحل تحمل حياته وشقاءه بنفسه، ولم ينسبه لغيره من أشخاص أو أقدار أو أعراض، يقول الراحل: (لا عتبٌ ولا عتابٌ، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها، وبمفردها، صفّقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النِعم)، لا أعلم عن أي دوام يتحدث كاتبنا الكبير في نص ينسج آخر خيوط النهاية، هل هو حديث نابع من خشيته ألا يموت؟! ربما.
اعتاد الكبار أن يختموا مشاهد النهايات بتصوير درامي يبقى في ذهن المتابع وروحه غصة أليمه، أو زفرة مكتومة، أو دمعة ساخنة مؤجلة، وهو الأمر الذي لم يعتد عليه كثيرًا كاتبنا في نهاياته الكثيرة في نصوصه وكتاباته التي ملأت الأوراق واستنفدت الأحبار، حنَّا مينة هنا أراد أن يكوي قلوب محبيه بكية وداع لا أدري سببها أو مبررها، لماذا لا يريد رفيق الشقاء الكبير لأحد من الأقرباء والرفقاء والأصدقاء، بل حتى القراء، أن يشاركوا وجدانيًا بشيء في مشهد النهاية، ولو بإسدال الستار في الفصل الأخير من شقاء ابن البحر حنَّا مينة، لم يعتب على أحد، ولكنه عاقب كل أحد، وكأنه يقول لكل من احتك بهم أو احتكت كلماته بهم، لا أريد منكم شيئًا دعوني ومماتي، كما ودعتموني وشقائي، يقول حنَّا مينة: (أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قُرّاء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي، محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاصٍ مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب عليَّ، في أي قبر مُتاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة)، ويواصل الفقيد الإيغال في عصر قلوب محبيه، حينما يقول: (لا حزنٌ، لا بكاءٌ، لا لباسٌ أسود، لا للتعزيات، بأي شكلٍ، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثمّ وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذا التأبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إليَّ، استغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها)، لا أستطيع القول بأن الرجل أراد لمحبيه أن يواصلوا حياتهم بلا لحظة توقف، أو حزن على قَدَرٍ جرى، وسنة مضت وهي الموت، أبدًا لا أقول هذا، بل أقرب المعاني هنا أنه طعن قلوب محبيه ووسع مطعنه أكثر، حينما قال: (... كلُّ ما أملك، في دمشق واللاذقية، يتصرف به من يدّعون أنهم أهلي، ولهم الحرية في توزيع بعضه، على الفقراء، الأحباء الذين كنت منهم، وكانوا مني، وكنا على نسب هو الأغلى، الأثمن، الأكرم عندي).
أخيرًا، قال الراحل قبل أن يقفل باب الماضي إلى الأبد، ويقف حاضره ومستقبله عند حدهما المؤجل، وفي كلمة -ما قبل السقوط الأخير- لفارس كلمة محلقة، وعروس نص مدهش، أبى أن يكون رحيله عاديًا، كما يرحل الناس: (أما بيتي في اللاذقية، وكل ما فيه، فهو لها -يقصد زوجته- ومطوّب باسمها، فلا يباع إلا بعد عودتها إلى العدم الذي خرجت هي، وخرجت أنا منه، ثم عدنا إليه).