قدمتُ خطوة وتأخرتُ خطوتين قبل الدخول للسينما في الدوحة منذ أيام خلال سفري لمشاهدة فيلم "طارد الجن" الأمريكي؛ فأفلام الرعب لا أحبها أبدا لأنها ترفع ضغطي؛ لكني غامرت فخلاصة القصة أثارت فضولي حول فكرة تلبس الجن عند الأمريكان، وإن شاهدتُ ذلك عبر فيلم وثائقي؛ فمنهم شريحة متدينة تؤمن بتلبس الجن؛ ولديهم رقاة يقرؤون عليهم الإنجيل وفق المعتقد المسيحي؛ أما الفيلم فأحداثه تدور حول قس متدين يطرد الجن أو كما يسمونها الأرواح الشريرة؛ أي بمثابة الراقي الشرعي لدينا؛ لكن هذا القس ليس كغيره؛ إنه لا يؤمن بتلبس الجن أساسا للإنسان، ويعتبر ذلك من الأمراض النفسية؛ ولا أعلم كيف تذكرتُ حينها وأنا أفرغ توتري بأكل حبات "الفشار"؛ أحد الرقاة الشهيرين في المدينة المنورة ممن مارسوا الرقية وبعد سنوات عديدة أعلن أن الجن لا يتلبس الإنسان وأن من أتوه هم مرضى نفسيون !. وأعود للفيلم؛ هذا القس لا يستطيع المجاهرة بعدم اعترافه بالجن؛ نتيجة اعتقاد كنسي"إذا كنت تؤمن بالله فعليك الإيمان بوجود الشيطان" فإن أعلنه سيفقد سلطته الدينية؛ ولهذا فضل كسب مكانته بجانب المال؛ وبات يُوهم المرضى أنه يطرد الجن منهم خلال قراءة الإنجيل، حتى قرأ يوما خبرا عن موت طفل مختنقا من قس آخر حاول إخراج جني منه؛ فاستيقظ ضميره؛ وقرر فضح أمثاله للناس؛ وحينها تذكرتُ حالات الوفاة بين أيدي بعض المعالجين لدينا نتيجة ضربهم وخنقهم بل واستخدام الصعق الكهربائي كما نقلت الصحافة منذ أشهر، هذا القس قرر تصوير فيلم وثائقي يخبر الناس بكيفية الاحتيال خلال استغلال اعتقاد الناس بتلبس الجن عبر محاولته علاج فتاة مراهقة تسكنها روح شريرة أو مارد كما نسميه نحن، وتسترسل الأحداث لتبقي المشاهد أمام حيرة هل الفتاة مريضة نفسيا كما يعتقد القس؟ أم أنها مسكونة بالفعل كما تُوهم الأحداث؟ أم المسألة باتت محاولة لاستغلال هذا الاعتقاد ليكون مبررا لارتكاب جرائم قتل يقوم بها أخو الفتاة ؟ وينتهي الفيلم أمام الأسئلة نفسها، ولكن بعد ارتكاب الأخ جريمة قتل المصور والمخرجة للفيلم الوثائقي منعا للحقيقة.

الخلاصة؛ يبدو أن جِننا الموقر لا يختلف عن الجِني الأمريكي؛ أقصد هناك قواسم مشتركة كثيرة؛ فممارسة الرقية ومن يؤمنون بتلبس الجن واستغلال عواطف الناس والاحتيال عليهم ليس في ثقافتنا فقط؛ إنه لدى مختلف الأمم والأديان؛ ويبدو أن استغلال هذا الاعتقاد لتبرير ارتكاب الفساد والجرائم بات قاسما مشتركا أيضا؛ ولا داعي لأذكركم بما تناقلته الصحافة حول ذلك في تبرير السرقات بالملايين والجرائم كقتل شابين لأمهما طعنا بحجة تلبس الجن لهما في الشرقية؛ لكن ما يُحرض على التفكير هنا؛ جميع المرضى بالجن في العالم يتأثرون تشنجا وصراخا خلال قراءة الإنجيل أو أي شيء من كتب دينية تماما مثلما يحدث حين يقوم الراقي بقراءة القرآن!! فإن كان المرضى لدينا يتأثرون بالقرآن لأنه الحق، فكيف نبرر تشنجهم مع الإنجيل وغيره؟! مثل هذا يؤكد أنّ المسألة لا تتجاوز أمراضا نفسية؛ فإن بدأت هوليوود تنتج فيلما لتتصدى لظاهرة استغلال اعتقاد الناس بالجن لتبرير الفساد والجرائم، فمتى نتصدى نحن لهذه الظاهرة التي بات التكسّب فيها واضحا عبر المتاجرة بالقرآن والزيت والعسل!؟