في القراءة الواسعة والدقيقة لما يدور على كل خريطة هذا العالم السياسية والاجتماعية والثقافية تستطيع القول بكل وضوح وثقة إن السنوات الخمس الأخيرة بكل أحداثها الكوارثية قد فعلت ما لم تفعله من قبل في خمسين سنة. تستطيع الجزم تماماً أن هذا العالم السياسي والديموغرافي سيكون شكلاً آخر مخيفاً وغامضاً بعد عقد من اليوم. سنعود في تحليل الظواهر إلى نقطة سابقة وبعيدة من الزمن. مات اليسار وتوفت وانتهت بالتقريب شعبية الأحزاب الاشتراكية والعمالية وحتى الديمقراطية، بوفاة حارسها القديم عندما انهار الاتحاد السوفيتي. وبموت هذا اليسار الذي كان يشكل من المريدين نصف سكان الغرب فقد العالم بأسره كل نواميس التوازن الفكري وطبائع المنافسة العادلة على كل شيء. وبموت هذا اليسار أيضاً تنامى مؤخراً نقيضه حتى وصلنا إلى آخر مصطلح «سوسيوسياسي» وهو اليمين الشعبوي الذي جعلنا اليوم نترحم على أيام اليمين النخبوي، فهناك فارق بين اليمينين في حجم الانتشار والقاعدة. مع اليمين الشعبوي ومده الجارف أصبحت أوروبا وأميركا أكثر قومية وأشد عنصرية، ومع تناميه المتسارع ستصبحان جحيما اجتماعيا لمن يعيش عليهما ولا ينتمي لأعراق مكوناتها الأصلية.
خذ من الأمثلة: من ذا الذي سيصدق أن أعتى أحزاب اليمين المتطرف تحكم اليوم على أنقاض اليسار والاشتراكية في معظم وسط وشرق أوروبا، من وارسو إلى فيينا ومن دول البلقان حتى يمين اليمين في دول البلطيق. من الذي سيصدق أن «ماري لوبين» قد حصدت أكثر من ثلث أصوات الناخبين الفرنسيين، حاصدة ثلاثة أضعاف ما استطاعت حصده في الانتخابات السابقة. كيف تنظر للحقيقة أن أنجيلا ميركل قد احتاجت لأشهر من أجل بناء تحالفات الحكم، وكأنها في العراق أو لبنان، ثم ترضخ أخيراً لابتزاز أحزاب اليمين من أجل الشراكة.
كيف فضل الشعب البريطاني فكرة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي تحت ضغط مخاوف فقدان الهوية والقومية على حساب مصالح بلده الاقتصادية. كيف استطاع دونالد ترمب بكل ذكاء أن يقلب الطاولة في وجه اليسار والليبرالية الأميركية ليأخذ كل العالم إلى دهشة الفوز المستحيل، ثم نكتشف أنه اتكأ في فوزه التاريخي على القطاع السكاني الإنجليكاني وثقافة الـ«واسب» البيضاء في ولايات الكثافة اليمينية.
باختصار: كل هؤلاء هم المحركات الهائلة لما سيحدث لهذا الغرب وللعالم خلال العقد القادم من الزمن.