يعتبر ديوان المراقبة العامة الجهاز الأعلى للرقابة في الدولة، وهو في نفس الوقت يعتبر مثل المحاسب أو المراجع القانوني للشركات والمؤسسات في القطاع الخاص، بالنسبة للجهات الحكومية المشمولة برقابة الديوان، حيث تتشابه مهام الديوان في الغالب مع مهام المحاسب القانوني، ويخضع الجميع لمعايير المراجعة المهنية، وقد تحدثت في عدة مقالات سابقة عن طبيعة دور الديوان في الرقابة على المال العام، وذكرت أن أهم التحديات التي تواجه الديوان تتمثل في منهجية الرقابة التقليدية التي تعتمد على ضبط المستندات الحسابية من خلال القبض والصرف، وهذا المفهوم قد تراجع في العقود الثلاثة الأخيرة أمام مفهوم الرقابة المهنية والمعاصرة التي تعتمد على المعايير المهنية للمراجعة، ولم تعد مجرد تدقيق مستندي قائم على الضياع والهدر في المال العام.
ولقد حاول ديوان المراقبة العامة على مدى ثلاثين عاماً تطوير منهجيته الرقابية بما يتماشى مع مبادئ المراجعة الحديثة، ورغم هذه الجهود في سبيل تطوير عمل الديوان إلا أنها لم تغير شيئاً في المنهجية التقليدية، فعلى سبيل المثال:
تعتمد الرقابة المهنية التي تنتهجها الدول المتقدمة على وجود المراقب أو المراجع في مقر الجهة الحكومية، فيتمكن من التعرف على نواح مهمة تفيد في التخطيط لعملية المراجعة، مثل طبيعة العمل بالجهة وتفهم بيئة العمل بها وهيكلها الإداري والمالي والسياسات والإجراءات المعمول بها، حيث تجعل المراقب قريباً من مصادر المعلومات، إضافة إلى تقييم أنظمة الرقابة الداخلية، بما فيها الأنظمة الإلكترونية وتقنية المعلومات، والحصول على الأدلة والقرائن التي تتسم بالقوة والكفاءة وهو ما يعزز التقارير الرقابية ونتائجها.
وعلى هذا الأساس قام الديوان بفتح مكاتب ميدانية في الجهات الحكومية، وأصدر سلسلة إجراءات لتنظيم عمل تلك المكاتب وتدوير المشرفين عليها، ومع ذلك ما زالت تلك المكاتب تعمل بنفس المنهجية القديمة في مراجعة المستندات الحسابية وبنفس الأسلوب المتبع في المكاتب الرئيسية في داخل الديوان، مما ترتب على ذلك زيادة في تكاليف المراجعة بالإضافة إلى إضعاف الثقة في مهنة المراجعة الحكومية حيث تنشأ مخاطر تهديدات المصلحة الشخصية والمتمثلة في احتمالية تفاوض أحد أعضاء فريق المراجعة الميداني مع الجهة الحكومية على وظيفة في الجهة، أو تنشأ مخاطر تهديد الاعتياد المتمثلة في ارتباط مشرف الفريق لمدة طويلة مع الجهة وقبول الفريق لمعاملة مميزة فيها.
ومن الأمثلة الأخرى التي حاول فيها الديوان تطبيق المبادئ الحديثة للمراجعة، المشاركة في التوقيع على الحساب الختامي لكل وزارة حكومية، فحسب تعليمات إقفال الحسابات وإعداد الحسابات الختامية الصادرة عن وزارة المالية، يجب أن يوقع الحساب الختامي من رئيس المصلحة والمدير المالي والمراقب المالي ومندوب من ديوان المراقبة العامة، وكان الهدف المفترض من هذا الإجراء هو أن يمارس الديوان مراجعة الالتزام، وهي نوع من أنواع المراجعة الأخرى مثل مراجعة التقارير المالية ومراجعة الأداء (المراجعة التشغيلية)، ويبدي رأياً مهنياً في أن المصروفات تم إنفاقها وفق الأنظمة والتعليمات وكذلك بالنسبة لتحصيل الإيرادات وإجراء المناقلات، وتكون مسؤولية الديوان هي إضفاء الثقة في الحسابات الختامية.
ولكن ما حدث على أرض الواقع هو مشاركة الديوان في إعداد تلك الحسابات وإبداء بعض الملاحظات الشكلية في تعديلها لتتوافق مع الأنظمة والتعليمات، وهنا فقد الديوان استقلاليته وأصبح جهازا تنفيذيا يشارك الجهات الحكومية في عملها، وقد انتبه الديوان لهذه الإشكالية وتم إلغاء توقيع ومشاركة مندوب الديوان في إعداد الحسابات الختامية، ولكن بقيت هذه التقارير بدون مراجعة مهنية!
بالإضافة إلى ما سبق، تعتبر دراسة وفهم أنظمة الرقابة الداخلية وتقدير المخاطر من أهم إجراءات التخطيط الإستراتيجية في المراجعة المهنية وهي صلب المراجعة، ويعتمد عليها المراجع في تحديد مدى وكفاية أدلة المراجعة، ومن ضمن الخدمات التي يقدمها المراجع القانوني هو إبداء الرأي المهني في فاعلية أنظمة الرقابة الداخلية، وقد أدرك الديوان أهمية هذه الممارسة ودورها في كفاءة وفاعلية الرقابة الحكومية، وتم إنشاء وحدات للمراجعة الداخلية تابعة للجهات الحكومية، ولكن الإشكالية بقيت في أن هذه الوحدات أصبحت تمارس المنهجية القديمة في الرقابة، بالإضافة إلى عدم وجود تقييم لأنظمة الرقابة الداخلية في الجهات الحكومية. يعمل ديوان المراقبة العامة اليوم على تدريب وتطوير موظفيه، وتم افتتاح المركز السعودي للمراجعة المالية والرقابة على الأداء بمقر الديوان الرئيس بمدينة الرياض، وهذه أحد أهم الإستراتيجيات التي يسعى الديوان إلى تحقيق أهدافها في هذه المرحلة، وذلك من أجل اكتساب موظفي الديوان الخبرة والمعرفة لرفع كفاءة أدائهم،حسب الاحتياجات الفعلية والمستجدات العالمية في مجال المراجعة المالية ورقابة الأداء، ولهذا هناك حاجة ملحة إلى وجود إستراتيجية تعمل جنباً إلى جنب مع إستراتيجية التدريب، بحيث يكون هناك تدريب على رأس العمل للتحول إلى تطبيق المنهجية المهنية الحديثة في المراجعة، وخاصة أن المملكة اليوم أصبحت تطبق المعايير الدولية في المحاسبة والمراجعة، وهي تتجه إلى تطبيق النظام المحاسبي الجديد والذي يستلزم بكل تأكيد وجود رقابة ومراجعة مهنية جديدة.