تأسست جامعة الملك فهد للبترول والمعادن عام 1963، أي أنها تأسست منذ 55 عاما، وهذه الفترة الطويلة جدا التي تتجاوز نصف القرن تقريبا كفيلة بإنجاز أي خطة إستراتيجية بغرض إحلال لغة مكان لغة أخرى مهما كانت هذه اللغة.
في هذه المدة شهد العالم تبدلات اقتصادية وسياسية وثقافية عديدة، سقطت دول ونهضت دول، أمم تخلفت وأخرى تقدمت، سقطت الشيوعية وانفردت الرأسمالية بالسيطرة، صار العالم أحادي القطب بعدما كان عالما تتنازعه قوتان، قامت الصين من سباتها وصارت قوة اقتصادية عظمى قادرة على قلب موازين العالم من جديد بعدما كانت أمة متخلفة لا يلقى لها بالا، لكن جامعة البترول وطوال هذه المدة الزمنية لم تفطن إلى أن هناك مرادفا عربيا أفضل وأكثر شيوعا من المصطلح الأجنبي «البترول»، واستمر هذا المصطلح الأجنبي عنوانا عريضا لهذه الجامعة العريقة حتى صارت تعرف بجامعة البترول.
لا شك أن جامعة البترول قدمت الكثير من الإنجازات العلمية وخرجت للمجتمع العديد من الكفاءات الوطنية التي ساهمت في بناء النهضة الصناعية التي نعيشها اليوم، ولكننا سنتطرق لعلاقة جامعة البترول باللغة العربية، وهي اللغة الوطنية للمجتمع السعودي، وهي لغة كل أفراد المجتمع بلا استثناء، فمن العجيب أن اللغة العربية غائبة بشكل كلي، وتعد جامعة البترول الجامعة السعودية الوحيدة التي تتجنب إدراج اللغة العربية ضمن مناهجها، وتكاد تكون الجامعة الوحيدة التي لا تحمل رسالة حقيقية تجاه اللغة العربية، وتعمل ضمن مناخ يعمل على إقصاء العربية في المجالات العلمية كافة.
فهل القائمون على الجامعة يعتقدون أن هناك علاقة مباشرة بين التعليم باللغة الإنجليزية والمستوى التعليمي، وأن التعليم باللغة العربية سيؤدي بالضرورة لانخفاض مستوى الطلاب العلمي؟ لا يوجد أي إثبات علمي يربط بين لغة التدريس والمستوى العلمي للطالب، وبالإمكان التدريس باللغة العربية دون المساس بالمستوى التعليمي، فأغلب الدول المتقدمة علميا وتعليميا تعتمد لغتها الأم وتضعها فوق كل اعتبار، وكل الجامعات المُحترمة للغتها والمتطلعة لأن تكون حاضرة في المنتظم الدولي، تدرس بلغتها لا بلغة الآخر، ونمثل لذلك بفنلندا وسويسرا وإسرائيل والصين والسويد واليابان وكوريا.
إن عدم توطين المعرفة العلمية باللغة العربية وتدريس العلوم المتقدمة بلغة أجنبية يعتبر خسارة للمواطنين، وإضعافا لفرصة تملك العلم والمعرفة بلغتهم التي تعد بالنسبة لهم لغة الهوية والثقافة، ويشعر الطالب بالانكسار والهزيمة أمام الآخر ولغته، ويرسخ في وجدانه بأن لغته عاجزة عن مواكبة التقنية العلمية الحديثة.
ماذا قدمت جامعة البترول للغة العربية منذ تأسيسها؟ وهل تحوي مراكز فاعلة للترجمة والتعريب؟ هل لها دار نشر متخصصة في نشر الكتب العربية؟ هل عملت الجامعة على تنمية اللغة العربية وتطويرها وتعزيز استعمالها؟ فهذه الأسئلة مهمة جدا، ويجب أن توضع في الحسبان دائما، فالوعي اللغوي ضرورة في مجال التعليم بمستوياته كافة، والوعي اللغوي كما يعرفه اللغويون هو الإيمان الراسخ بإمكانات العربية وقدرتها على البقاء والتداول والاعتزاز بها وكونها هي المعبر الوحيد عن أفكار وأحاسيس الأفراد والمجتمع معا.
مشكلة جامعة البترول أنها ربطت مصيرها ومصير طلابها بشركات القطاع الخاص ومتطلباته ومعاييره، حتى أصبحت وكأنها فرعا من فروع الشركات العملاقة والمتعددة الجنسيات التي تتمركز في المنطقة الشرقية، أو مركز تدريب تابعا لهذه الشركات، وهذا قد يفقدها الاستقلالية لأداء رسالة أسمى من قواعد العرض والطلب التي هي العنوان الأبرز لسوق العمل.
إن الوعي اللغوي هو خطوة أولية لما يعرف بالتخطيط اللغوي، وهدفه النهائي إحلال لغة مكان لغة أخرى وتكريس استعمالها في مجتمع ما، والتخطيط اللغوي ثمرة جهود علماء الاجتماع والتربية والإنسان والاقتصاد واللغة والسياسة، وهو في الغالب يخدم أهداف الهوية وليس متطلبات سوق العمل الأنانية والآنية على حد سواء، المنصاعة لمعايير العرض والطلب التي قد تتضارب غالبا مع أهداف التخطيط اللغوي.
سوق العمل المحلي، على سبيل المثال، ووفقا لقواعد العرض والطلب، يفضل الموظف الأجنبي على الموظف المحلي، وهذه حقيقة لا تخفى على أحد، ورغبة سوق العمل ليس بالضرورة أن تصب في الصالح العام، وليس من المنطقي تلبية رغبات سوق العمل والشركات الخاصة فيما يتعلق بالتوظيف، لأن البطالة لا تمثل هاجسا مقلقا لهم، وزيادة معدل البطالة أو نقصها لا يمثل أولوية عند الشركات الساعية لزيادة الربح وفق قواعد العرض والطلب.
ما يتعلق بالتوظيف ينطبق تماما على التخطيط اللغوي، فالشركات العملاقة والصغيرة لا تملك أي وعي لغوي، وليس لها خطة لغوية من أي نوع، بعكس الجامعات التي تمثل اللغة القومية أولوية قصوى بالنسبة لها، فالجامعات الألمانية مثلا تدرك تمام الإدراك أن اللغة الإنجليزية هي اللغة الأكثر تداولا في عالم السوق ولكنها فضلت اعتماد اللغة الألمانية في مناهجها لأنها تعي جيدا أضرار التبعية الثقافية وأثرها بعيد المدى.
ولو انصاعت كل جامعة لمتطلبات سوق العمل وقواعد العرض والطلب لاعتمدت كل جامعات الدنيا اللغة الإنجليزية وتوقفت حركة الترجمة في دول العالم المتقدم، ولكن الجامعات فضلت الاستقلال وعدم التماهي مع معايير السوق، فمبادئ الصرح الأكاديمي ومنطلقاته لا يجب أن ترضخ تماما لعالم السوق ونزعاته النفعية.