قبل 13 سنة تقريبا، كنت أُدرّس طالبة في الصف السادس، وكانت مشاغبة بعض الشيء، وكثيرة الضحك، ولا تبدو عليها المبالاة بما تسمع من مواعظ ونصائح من هنا وهناك، وكنت اعتدت في حصصي أن أستعرض للطالبات بعض القصص الملهمة والمواقف المؤثرة أثناء الشرح، بما يتناسب مع موضوع الدرس.
وأذكر أنه حدث موقف طارئ في الفصل، علّقتُ عليه بقصة نبوية جميلة أثارت شجون معظم الطالبات، وبدا عليهن التأثر، إلا تلك الطالبة فقد غرقت في الضحك!
ذهبت هذه الطالبة مع دفعتها إلى المتوسط، ولم أرها بعد ذلك.
ذات يوم، كنت في مناسبة اجتماعية، وابتدرتني شابة جميلة بالسلام والتحية، وكان يمسك بيدها طفلٌ في الثانية من العمر تقريبا، قالت: لا شك أنك لم تعرفيني يا معلمتي، ولكني أنا أعرفك جيدا، قلت لها يؤسفني ذلك، لكن ما دمت معلمتك فهذا شيء طبيعي ألا أعرفك، فقد كنتِ طفلة، والآن أنت أمٌّ كما أرى!
ودار بيننا حديث طويل وجميل، يستحق أن أرويه. فقد كانت الفتاة في قمة الأدب والذوق، وحديثها في غاية الأناقة والجمال، وحوارها في منتهى العمق، حتى عجزتُ في بعض الأحيان عن مجاراتها، لكني سأكتفي بعبارة واحدة قالتها، ليس تمجيدا لنفسي، فهذا واجبي الذي أتقاضى عليه مالا، ولكنها إشارة على الطريق، أضيؤها لإخواني وأخواتي المعلمين والمعلمات، والمربين والمربيات، لا سيما المستجدين وحديثي الخبرة منهم.
قالت: هل تذكرين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والخواطر والسوانح والقصص والحكايات والمواقف، التي كنت تطعمين بها حصصك. ما زلت أستعين بها في حياتي، بل إني أظن أحيانا أنني لم أخرج من سنين دراستي بسواها، رغم أنني أحمل بكالوريوس في الفيزياء، وأستعد لتحضير الماجستير!
حاولت أن أبدد دهشتي من كلماتها، فقلت لها مازحة: هل كنت تسمعين شيئا مما أقول، ظننتك مشغولة كل الوقت بالضحك ومشاكسة زميلاتك!
فابتسمت بخجل وهي تقول: حتى أنا كنت أظن ذلك، لكن ما إن تجاوزت المتوسطة حتى عادت إليّ تلك الكلمات، تتهادى في ذاكرتي، وتنتثر أمام عيني لأختار منها ما شئت، وأستعين بها على خبرتي المتواضعة في هذه الحياة، كقافلة قديمة توقظ الصحاري الغافية، وتدعوها إلى استقبال المطر بعد سنيّ القحط والعطش.
لقد كنت أسمع كلماتك وأنا لاهية بأدواتي أو مشاكسة زميلاتي، لكنها كانت تحفر لنفسها مكانا قصيّا في ذاكرتي الغضّة، لم أظن يوما أنني سأكبر وتكبر أمامي العقبات، وتتعقد الأمور، وأقف عاجزة أمام مفترق الطرق، ولم يدر بخلدي أنني أحتاج إلى تلك الكلمات لتنير لي دربا طال عليّ فجأة، ولم يكن في جعبتي الفقيرة ما يكفي من الزاد، وكم كنت بحاجة إلى تلك الكلمات التي ظهرت لي نجوما ساريات في ليال حالكة السواد.
أيها المعلمون والمعلمات: كلماتكم ليست مجرد أحرف مصفوفة لها أصوات، تتلقفها جدران الفصول، هي علامات تحفر الذاكرة الطرية، وتستوطنها زمانا، ثم تظهر فجأة كوكبا دريّا أو شهابا حارقا!.