برحيل أستاذنا الكبير محمد الحميد يرحل من عالمنا كوكب قدح مشعل النور وأضاء سماء الثقافة لا في هذه المدينة فحسب بل في كل فضاءات المشهد الثقافي الوطني. سأختار منه في يوم التأبين الحزين أروع وأرفع الخصال: قدرته المدهشة في الوقوف بكل الحياد على ذات المسافة من أقطاب المدارس الفكرية المتضادة دون ميل أو إقصاء، يكاد أن يكون محمد الحميد رئيس النادي الأدبي الوحيد الذي فتح المنبر أمام كل ألوان الطيف من أقصى اليمين حتى يسار اليسار ذات أزمان كانت فيها (مراجل) الصراع الحاد تطبخ بنيرانها كل تلك الأفكار المتناقضة. استطاع محمد الحميد أن يخلق من أبها ومن ناديها الأدبي شعلة الوطن الأولى، ومن منا لا يتذكر مواجهات الحداثة والأصولية في تلك النزالات التاريخية بين الأقطاب والرموز على مسرح النادي. كان من عادة راحلنا الكبير أن ينهي كل محاضرة بكلمة قصيرة، وللتاريخ لم يكن أبو عبدالله ينحاز فيها لفريق أو شخص أو مدرسة.
وفي سرادق العزاء الإلكتروني تبارى قاصدوه ومحبوه في سرد أفضال تلك الشخصية الاستثنائية. على منبر نادي أبها الأدبي ألقيت أول محاضرة عامة لي في حياتي بعد أشهر قليلة من عودتي من البعثة. أحدثت تلك المحاضرة يومها جدلا واسعا بمساحة واسعة من الرفض وحفلات الشتم وقليل من القبول، والحق أنني لو ألقيت نفس المحاضرة هذا المساء لما استقبلت تلك الأفكار ولا حتى بربع ردة الفعل، فقد قطعنا ولله الحمد مشوارا كبيرا من النور والتنوير، شيء من هذا المشوار جاء بفضل رجال مثل محمد الحميد، وبعد محاضرتي تلك بأيام معدودة فوجئت باتصاله مهنئا باختياري لعضوية مجلس إدارة النادي، فأجبته مازحا: أخشى أنكم تسبحون في هذه المدينة باختياري ضد كل هذا التيار، لكن الواضح أن قدره التاريخي في إدارة العمل الثقافي وفي هذه المدينة بالتحديد كان كله سباحة ضد التيار، المسطرة الوحيدة لدى راحلنا الكبير هي مسطرة الخط الوطني التي لا يسمح لأحد بالتجاوز عليها، ولو أن (الوطنية) دروس لقلت إنه أعطى كل من عرفه وعمل معه جرعات مكثفة في مفاهيم الوطنية، وباختصار كان تاريخا مكتملا في الكتاب الواسع لهذه المدينة.