تلقيت دعوة كريمة من الجامعة الإسلامية لحضور المؤتمر العالمي الأول عن جهود المملكة العربية السعودية في خدمة القضايا الإسلامية، فما كان مني إلا أن حملت حقائبي وشددت الرحال إلى طيبة الطيبة. إذ من ذا الذي يستطيع أن يقاوم الذهاب للمدينة المنورة على ساكنها أزكى صلاة وسلام، أو أن يقاوم إغراء رؤية أهلنا المدنيين وطيبتهم المعهودة ووجوههم المبتسمة أبداً.
لا يستطيع المدني أن يقاوم دعوتك له بالابتسامة فثقافة المدينة كلها قائمة على "وتبسمك في وجه أخيك صدقة". المدينة المنورة حيث يمكن أن توصف باختصار في جملة واحدة: ابتسم فأنت في المدينة، حيث هذه السكينة الروحانية الفريدة، وحيث وجوه أهلها التي لا تتوقف عن الترحيب بكل قادم، في كرم نادر الوجود، إلا أنه لا يستغرب من أبناء الأنصار الذين استقبلوا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام عندما رفضته وحاربته كل البلاد.
المدينة فعلا كريمة، والكرم لا يكون في حقل دونما آخر، بل هو نهر يدفق إلى كل شيء، ولا يمكن أن يكون الإنسان كريماً ـ كرماً حقيقياً ـ في شيء، وبخيلاً في أشياء في الوقت نفسه. عندما نزلنا إلى المطار كان منسوبو الجامعة الإسلامية هناك كخلية نحل تعمل بدون كلل أو ملل، تنقل الضيوف إلى مكان إقامتهم، في نشاط وحركة لم أرها في كثير من المؤتمرات التي حضرتها، نشاط ينافس عالمياً ويتصدر محلياً.
كان أول ما حضرت في المؤتمر هو ندوة شارك فيها الأمير تركي الفيصل ووزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة بعنوان: (جهود المملكة في حل القضية الأفغانية وإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية) وقد أعطتني تلك الندوة الكثير من التصورات حول تلك القضيتين الشائكتين. في الفندق، وعلى مائدة الطعام، كانت هناك فرصة ثمينة للقاء "الإخوة الأعداء" كتّاب الصحف وممثلي تيار الصحوة الإسلامية، المشهد لم يعد جديداً علي، فقد سعدت برؤيته من قبل، لكنه كان جديداً بالنسبة لآخرين، فكثير من الإخوة تساقطت عنهم الأوهام التي يتخيلها بعضهم عن البعض الآخر، واكتشف "الإسلامي" أن الكتاب السعوديين ليسوا "عملاء غربيين" يسعون لفرنجة البلد، واكتشف "التنويري" أن ليس كل "الإسلاميين" يسعون لإسقاط نظام الحكم أو يتآمرون على الوطن بسبب أحلام طوباوية. هذه بعض الأوهام التي كانت سائدة من قبل حينما كنا لا نحسن الحوار ولا نعرفه أصلاً.
قديماً كان بعض الإخوة لا يرون في الحوار إلا إقامة للحجة و"معذرة إلى ربكم" لكنهم اكتشفوا اليوم أن الحوار يعود بالفائدة على كل المتحاورين، ولا يمكن أن يكون الحوار مجرد ناصح ومستمع فقط.
لقد اكتشفنا جميعاً أن لكل رأي مبرراته العقلية والعاطفية في الوقت نفسه. اكتشفنا أن وحدتنا الوطنية أهم من أي خلاف. اكتشفنا أنه لا يمكن ولا يحق لأي إنسان أن يزعم بأنه يقف بقدميه على هرم المعرفة، فالمعرفة متجددة في كل ثانية تمر، ولا بد للإنسان أن يتواضع كثيراً عندما يقارن معرفته كفرد بهذا الطوفان الذي لا يتوقف عن التصاعد.
مثل هذه الحوارات هي جزء من الجدل والسيرورة التي تحكم المجتمعات فتصير إليها. هي قانون ونظام لابد ـ شئنا أم أبينا ـ أن نسير فيه، إذ طبيعة الحياة هي الحركة والتغير لا الجمود والسكون، فالجمود والثبات لا معنى له سوى الموت.
هذه الجهود العظيمة التي تقدمها الجامعة الإسلامية في مضمار لم الشمل وتعزيز وحدتنا الوطنية هي جهود يجب أن تشكر وأن تقدر، خصوصا ونحن نتحدث عن ذلك الرجل الألمعي، شعلة النشاط، معالي الدكتور محمد العقلا مدير الجامعة الإسلامية الذي نقل الجامعة نقلة نوعية إلى الأفضل.