عُرفت القيم العربية المشتركة حول القضايا العربية بالذات في الفترة بين نهاية الأربعينات والخمسينات إلى فترة السبعينات الميلادية، بأنها أولا وقبل كل شيء تلك المتعلقة بنضالات التحرر من الاستعمار الأجنبي الذي سيطر على معظم المساحات الناطقة باللغة العربية، ثم وضعت لاحقا القضية الفلسطينية في أولى المراتب بلا منازع، حتى قيل إنها أولا وثانيا وثالثا، واستمر تبنيها ونقل ما علق داخلها إلى الأجيال اللاحقة، وتبنت كل التيارات والحركات والتكتلات بدءا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار العربيين على اختلافهما القضية الفلسطينية ومشاريع التحرر والديمقراطية والاشتراكية وما إليها. وقد استحوذت القضية الفلسطينية على محور يوميات كل الشعوب العربية بلا استثناء، السياسية والثقافية والرياضية والاقتصادية، وغيرها من النواحي الحياتية تحت شعارات القيم العربية المشتركة «الدين والدم واللغة والأرض».
اليوم، يتراجع كثير من المواقف حول مفهوم القضايا الأكثر أهمية عربيا، وبتنا نسمع أصواتا هنا وهناك تحاول بقوة اللعب على العواطف عبر شعارات الشعبوية في الشوارع العربية، لرمي القضية الفلسطينية إلى المرتبة الثالثة، بل إن البعض ينادي بنسيانها.. هكذا!، وقد ساعد على ذلك استخدام الميديا بكل طاقاتها -صوتا وصورة- في نشر الفكرة الجديدة لما أستطيع أن أطلق عليه «تيار الشعبوية الأعمى» المتصاعد.
على مدار عقود تم فيها تضييق الفجوة بين المجتمعات في العالم عبر العمل على فكرة الإنسان العالمي، الذي توفر المناخات الديمقراطية الليبرالية له الفرصة لازدهار فكرته، وهي الفكرة الخلاقة التي يعمل الشعبويون حاليا في نسفها، والعودة بنا إلى نقطة المربع الأول، وهو ما يعني أننا سنعيد التجربة العربية على هذا الجانب مرة أخرى!
يمكنني أن أتفهم تحول البعض «البراجماتي» الذي يسعى إلى الانتصار لأفكاره الخاصة إلى الانحياز لفكرة التخلص من القيم المشتركة للقضايا العربية، لكنني لا أفهم انسياق المفكرين أيضا بهذه السرعة في قضية طالما اشتغل عليها كل الزعماء العرب، وحتى زعماء آخرون حول العالم لا تربطهم بالعروبة حتى شعرة معاوية.
من جهة أخرى، يقول الواقع إنه لا يمكننا في كل مرة الدخول في معركة مع مشكلاتنا نفسها، واجترار أدوات وأفكار الأبطال أنفسهم -وربما هي المشكلة التي جعلت من أولئك المهرولين ينحازون إلى مجافاة القيم العربية المشتركة في الوقت الراهن- إذ إن ذلك يشبه العبث بالفعل، لأن قوة الشعوب تكمن في فهم ماضيها والتعلم منه لصنع مستقبلها، وهو ما غاب في ثقافة الشوارع العربية، بينما حدث عند الشعوب الأوروبية التي انتهت إلى أنه لا سبيل لنجاتها إلا بصنع قوة ضخمة لمواجهة التكتلات السياسية والاقتصادية في العالم، أو أن مشكلاتها ستتفاقم لا محالة، ولنا في الاتحاد الأوروبي خير مثال، فاليونان مثلا كانت ستصبح من الماضي فيما لو كانت خارج منظومة الاتحاد الأوروبي.
وأظن أن المجتمعات العربية بحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة ترتيب حساباتها، لتفادي الانهيارات المتوقعة لدولها الفاشلة، كاليمن والصومال والعراق، بنسبة ما، أو تلك التي تحاول النأي بنفسها عن الهَمّ المشترك كالجزائر وتونس في الوقت الراهن.
ومن الحماقة أن يعتقد أن الترتيبات المحتملة للمستقبل يمكن أن تتم بعيدا عن حمل القيم المشتركة للمجتمعات العربية تحت مسميات أقاليمها الدولية.
ربما قد ينجح البعض في صنع المعجزة منفردا، هذا صحيح، لكن السؤال إلى متى تستطيع فعل ذلك، وهذا هو الرهان؟
في تصوري، ستفرض التغيرات السياسية واقعها وشروطها في مثل هذه القضايا، وستعيد ترتيب البيت كما تريد هي، لا كما يريد أولئك المهرولون، لأنه من الحماقة تصور أن التحركات الفردية سياسيا أو اقتصاديا أو ثقافيا -بعيدا عن التمسك بالقيم المشتركة للمنظومة العربية- سيجعلها تحقق فرصا كبيرة على مستوى التعاون الدولي مثلا، ومفهوم القيم المشتركة هنا في الواقع العربي أكثر وضوحا من تلكم التي تظهر في القارة الأوروبية. فالعرب لديهم دين ولغة وروابط اجتماعية أكثر انسجاما، وحتى نحافظ على ازدهار هذه القيم في الوقت الراهن، يتوجب علينا تغيير مفهوم العلاقات الأخوية بناءً على هذه القيم، والتحول إلى مربع المصالح المشتركة التي تدعمها القيم وليس «تفرضها» القيم.
لقد نجحت أوروبا في صناعة هذه العلاقة القائمة على تبادل المصالح، ونجحت بالتالي في تشكيل قوة عظمى في العالم، أما نحن -للأسف- فقد ظهر من أبناء جلدتنا من يتنكر لذاته قبل قضايا هو فيها في الصف الأول من الصورة!، ولم يكلف نفسه تقديم فكرة للتحول وصناعة المستقبل لهذه البقعة من الأرض وساكنيها، فالتعاون العربي يجب أن يظل قائما، وكل ما يحتاج إليه هو تغيير مفاهيم العلاقة لا إنكارها، استعدادا لدخول العالم الجديد، لأن الوقت والمتغيرات لم يعودا يسمحان بخوض الخلافات والصراعات بالوكالة.