ما زلنا نكثر الحديث عن «الكتاب» الذي يقال إنه المرشد نحو الحضارة والمعرفة، «والقراءة» التي بواسطتها نحصل على المتعة، ونطرد السأم، ونقتل الملل، وحالهما اليوم، مع وجود تلك المزاحمة الكثيفة لهما من مختلف وسائل الإعلام الجديد، التي تتنوع منصاتها حتى احتار بعضنا فيها ومعها، فأصبح لا يعلم بماذا يأخذ، وماذا يترك ونتناول حال الكتاب بين جيلين في أحاديثنا.

عن جيل ما يزال يحتفي بالكتب، ولا يمكن له أن يشبع نهمه القرائي، إلا خلال القراءة من كتاب ورقيّ، يحمله بين يديه، وجيلٌ قدره أن يعيش ساعات طويلة مع الأجهزة الإلكترونية، وهو يتابع وسائل التواصل الاجتماعي ويطارد محتواها، ربما أن صلته مع الكتاب، والصحف الورقية تبدو ضعيفة جدا، لا، بل أكاد أجزم أنها شبه مقطوعة.

لعلي وأنا أتحدث معكم عن الكتاب والقراءة، وحال الكتاب اليوم، أتذكر معكم ذلكم المشهد الذي لن يفارق عيني، لأحد رموزنا الثقافية، فرغم ظروفه المرضية، إلا أنها لم تنسه صحبة الكتاب، ولم تمنعه من ممارسة هواية القراءة، هذا المشهد هو صورة لعلاقة جيل مضى من المثقفين والأدباء وعشاق القراءة مع الكتاب، فقد ذكّرني هذا المشهد ببيت من الشعر، وكأني بقائله يصف حال ذاك الجيل الذي ينتمي إليه هذا المثقف، وهو يقول:

«أقلّب كتبا طالما جمعتها

وأفنيت فيها العين والعين واليدَ».

مضيت في تأملي وأنا أتساءل عن جيل مضى، وكيف كان حالهم مع الكتاب الذي يُعد رفيقهم في خلواتهم وجميع أوقاتهم، وما يزال أنيسهم، كونه النافذة التي يطلون خلالها على الثقافة والمعرفة في ذاك الزمن، إلى جوار عشق بعضهم للراديو الذي كان يجتذب المثقفين منهم في متابعة الأخبار، والبرامج الثقافية التي أحسبها لن تتكرر، لا تلك البرامج الإذاعية الغنية بقيمتها الفكرية والأدبية، وما تحمله من محتوى هادف، والتي تجعلك لا تأسف على الوقت الذي تقضيه للاستماع إليها أو تشعر معها بضياعه دون فائدة، ولن يتكرر ذلك الجيل من المذيعين الكبار الذين كانوا يعدون مدارس في تقديمهم، ولغتهم وإثرائهم المعرفي، وفي ثقافتهم، واحترامهم للمستمع، وفي حضورهم الممتع الذي لا يتوقف عند جمال المظهر.

حقيقة، لقد تحسرت كثيرا، ولا أَودّ أن أفرط في تشاؤمي على حال الكتاب اليوم، وهو يتوارى خلف وسائل التواصل الاجتماعي، وأراه يكاد يغيب وسط النشر الإلكتروني في الإنترنت ووسائط اتصال الإعلام الجديد.

الكتاب الذي كان بعضهم في جيل مضى، يتنازل عن جزء من مرتبه الضئيل ليحصل عليه، ليعيش معه ليالي وأياما، وكان يحرص على شرائه أحيانا قبل أن يشتري الخبز لأهل بيته، وكان لا ينام إلا والكتاب تحت وسادته، أو إلى جواره، وكان بعضهم من شدة فرطه في القراءة وعشقها لها، قد نقل «فراش نومه» إلى مكتبته، وقد سمعت هذا من كثيرين من ذاك الجيل، بعضهم قد رحل عن دنيانا.

رحم الله جيلا كان يرى الكتاب أعزّ ما يُهدى، ولعل المشهد الذي ذكرته، يختصر تلك العلاقة الشديدة بين ذاك الجيل من المثقفين بالكتاب والقراءة، وحالنا وحال الأجيال اليوم مع الكتاب والقراءة.

بالطبع، كأني أسمع من يقول «حال يُرثى له»، وهذا هو الواقع الذي نعيشه مع الأسف، حتى شهدنا وسائل التواصل الاجتماعي على تنوعها وكثرتها، بدلا من أن تغذي أطفالنا بالفكر والثقافة بما تحمله من مواد، تنجح في تلويث عقولهم بما تعرضه من مواد سخيفة، أبطالها من أطلق عليهم لقب مشاهير الإعلام الجديد، رغم تحفظي على وصفهم بالمشاهير، حتى وصل ببعض محتوى ما تبثه وسائل التواصل الجديدة من مواد وألعاب إلى دفعهم للموت.

عموما، الحديث يطول حول الكتاب الذي لا تمّل صداقته، الذي وصفه المتنبي بقوله «أعّز مكان في الدنى سرج سابح... وخير جليس في الزمان كتاب»، الذي سيبقى أهم مصادر الثقافة، وسيبقى له طعمه الخاص، ونكهته التي لا يمكن لوسائل التواصل الجديد، أن توفرها للقارئ المثقف الذي ارتبط بالكتاب، مهما كانت مغرياتها، ولهذا فمن أجل تعزيز القراءة، وخلق جيل يعشق القراءة، ويتكون لديه شغف نحو المعرفة والمطالعة، ونبقي على حضور الكتاب، يجب تفعيل المبادرات القرائية ودعمها، وتشجيع الأطفال من الجيل الجديد على هواية القراءة، لإبعادهم ولو قليلا عن الالتصاق الخطير بوسائل التواصل والأجهزة التقنية التي سببّت لهم أضرارا، لا يمكن حصرها. أضرارٌ صحية وفكرية، إذا لم تجد من يرشدهم ويوجههم حول ما يمكن متابعته وقراءته، وخطورة تركهم وحدهم مع وسائل الإعلام الجديد الذي قد لا يقدم لهم ما ينفعهم، بقدر ما يضرهم، ولعلنا مع وجود وزارة مستقلة ستعنى بالثقافة، أن نشهد جهودا تعيد الكتاب إلى مكانته الطبيعية، وأن نشهد مزيدا من الفعاليات التي تجعل هذا الجيل الذي يكاد لا يعرف طريقه نحو الكتاب والمكتبة والقراءة، بقدر ما يعرف التعاطي مع وسائل التواصل الاجتماعي، ومتابعة مشاهير التواصل الاجتماعي الذين غزونا عبر«سناب» باستعراضاتهم الفارغة لحياتهم وشيلاتهم وقصائدهم وسفراتهم.

وقد سرني في مجال تشجيع القراءة، كثير من المبادرات التي تشجع نحو ذلك، منها ما يرعاها النادي الأدبي بالطائف مثل «تدوير الكتاب واستبداله»، ومبادرة «فريق إثراء الثقافي»، وكلتاهما تهدفان إلى خلق جيل ثقافي، يعمّق صلته بالكتب والقراءة التي عن طريقهما يمكن أن يرتفع الوعي، لأن الجيل الحالي، إذا لم يجد من يعينه على التخلص من عزلته التي فرضتها عليه الأجهزة الذكية، وعيّشته وحيدا مع آخرين مجهولين، قد يعرفهم وقد لا يعرفهم، وقد يكتسب ثقافة سلبية وأفكارا ملوثة أخلاقيا ودينيا، وقد ينجرف إما إلى منزلق الرذيلة والانحراف والانحلال، أو إلى وحل الإرهاب والعنف والتطرف، لهذا لا بد من وجود مبادرات كالتي أشرت إليهما أعلاه، تسهم في صنع جيل واع بدينه وثقافته وهويته.