كلنا يعلم أن للثقافة السعودية في تنشئة الأطفال في المجتمع علاقة مباشرة بفشلنا في توطين الوظائف والقضاء على البطالة. نحن في الغالب الأعم، نربي أبناءنا على بنيان متهالك من القيم العملية والضوابط قوامه فقط الحرص الشديد على سلامة الابن أو الابنة والتدليل في معظم الأحوال ونتناسى أحياناً حقوق من نعمل لديهم. نتأخر في الغالب في زراعة الاعتماد على النفس لدى الأطفال ويستمر ذلك إلى سنوات متأخرة في عمر الشاب أو الشابة. لهذا وعندما تفاجأنا بوجود البطالة في السنوات الأخيرة آثرنا إلقاء اللوم على المؤسسات والشركات ولم نبحث بعمق عن المشكلة ولم نناقش سلوكيات الموظف السعودي أثناء تأديته للوظيفة. جل ما نسمعه في هذه الأيام أن هذه الشركة قاسية في تعاملها أو أن صاحب المحل شديد في مراقبته وصارم في تعامله ولا يملك روح المواطنة ولا يوظف السعوديين. لكننا لا نسمع من الجهة الأخرى ما الذي يحدث حقيقة.
لابد أن نلتفت إلى حقوق صاحب العمل وكشف ما يعانيه من تمرد وقلة مبالاة يمارسها بعض الموظفين السعوديين المستجدين وليس جميعهم بالطبع. أقول ذلك إذا كنا نسعى إلى بناء مجتمع منتج يتحمل كل طرف نتيجة تصرفاته وتقصيره. هذا الحديث بالمناسبة ليس تنظيرياً فقد عانيت بنفسي من هذه السلوكيات التي يمارسها بعض الشباب المستجدين إبان إشرافي المباشر على التوظيف في بعض الشركات التي عملت بها سابقاً وأشرت لها في أكثر من مقال هنا في "الوطن". لقد نبهت إلى غياب الضوابط التي تحفظ للمؤسسات حقوقها عندما يتمرد عليها الموظف السعودي. في أكثر من حالة شاهدتها بنفسي كان رب العمل يتعب في تدريب السعوديين على مهنة ما فقط ليفاجأ أن الموظف وبعد تدريبه ينتقل إلى مؤسسة منافسة بلا إنذار. مجرد غياب تلقائي بلا إبداء أي سبب. هل بإمكان المتضرر إقامة دعوى قضائية ضد الموظف بسبب بعض الأذى الذي قد لحق به؟ هذا موضوع لم يتطرق إليه أحد من قبل ولم يعتد المجتمع عليه رغم أهميته. الذي أستطيع أن أخلص إليه من خلال التجربة أن الموظف السعودي في الغالب لا يخشى من معاقبة الشركة ولا ينظر إلى فصله من العمل على أنه حدث سيء قد يلحق بمستقبله الأذى. كما أن السجلات العمالية لا تحتفظ بمعلومات تؤكد أو تنفي تنقلات بعض الموظفين الجدد. لو توفرت مثل هذه المعلومات في سجلات متاحة لمن يبحث عنها فلربما يتردد الشاب على الإقدام والجرأة التي نشاهدها اليوم خوفاً من تشويه سيرته.
عطفاً على هذه الحقيقة وإن كانت لا تعتبر ظاهرة لكنها في جميع الأحوال سيئة، أتمنى على وزارة العمل السعودية أن تبادر إلى تطوير عقود العمل بحيث يشعر التاجر أن توظيف السعوديين لديه يقع تحت ضوابط واعتبارات قانونية تساعده وتشجعه على الاستثمار بهذا الموظف والاحتفاظ به لفترة معقولة تساوي في إنتاجها على الأقل تكاليف التدريب التي تكبدتها هذه المؤسسة أو ذلك التاجر. عقود العمل الحالية تحفظ حقوق الموظف إلى المدى المسموح به حسب لوائح العمل غير أن هذه العقود لا تحمل أي مواد صارمة لحفظ حقوق الطرف الآخر فيما عدا بنود بديهية ومحددة. المجتمع كما ذكرت يحتاج إلى زرع ثقافة جديدة للعمل بين الناس. ثقافة تنتج في نهايتها فردا سعوديا ذكراً كان أم أنثى مؤهلا ومصقولا بمفهوم العمل والإنتاج. نريد من هذا الفرد أن يكون مستشعراً للمسؤولية ويخشى من العقاب فيما لو لم يحسن التعامل مع هذه المسؤولية.
في هذا السياق وحتى يتحول حديثنا إلى ما يشبه العمل، ما المانع مثلاً من إضافة مادة جديدة نظرية وعملية تحت مسمى "الوظيفة والمسؤولية" في مراحل الثانوية العامة تهدف إلى تثقيف الطلبة نظرياً وعملياً على ثقافة العمل. كلنا يعلم أن الطالب في الدول المتقدمة يبدأ بممارسة العمل ولو على فترات متقطعة بدءاً من هذه المرحلة حتى يساعد أهله على تحمل نفقات التعليم. قد يتم الشق العملي على هذه المادة في المملكة بالتعاون مع مجموعة من المؤسسات الأهلية التجارية في قطاعات البيع والخدمات العامة في الفنادق والمستشفيات ونحو ذلك. ولا أرى مانعاً أيضاً من تقاضي الطالب مبلغاً رمزياً من المال مقابل كل ساعة عمل أثناء هذا التدريب حيث إن اكتساب الأجر له مفعول السحر في زرع ما نسعى إليه من ثقافة. وياحبذا لو تم تسليط الضوء على الوظائف التي تعنى بخدمة العملاء كون هذا التخصص من بين العديد من الوظائف الأخرى هو الأكثر غموضاً بين الشباب السعوديين. ذلك أن مفهوم الخدمة المقدمة للآخر قد يرتبط بترسبات تعيق تطوره. من هذه الترسبات موضوع القبيلة والأصل والفصل والعائلة وجميعها تشكل في الغالب حاجزاً أمام الإبداع والتطور في هذا المجال المتسع والغزير بالوظائف. كلنا يعلم أن من أهم أسرار نجاح الموظف اللبناني على سبيل المثال هو تفانيه ومهنيته العالية في تقديم الخدمة إلى الآخر مع قبض الثمن المناسب لهذه الخدمة بالطبع. لو فعلنا ذلك لأصبح العمل جزءا من اهتمامات الشباب بجانب الكرة وغيرها ولاختصرنا الكثير من الزمن الذي نستغرقه اليوم لتدريب الشباب وفي سن متأخرة على أبجديات أساسية في الحياة لا تحتاج أصلاً إلى تدريب.
قبل أن أختتم أود أن أشيد بمن نجح وقفز واعتلى الإبداع من الشباب السعوديين في العديد من المجالات. هؤلاء وإن كانوا استثناء إلا أن وجودهم وبريقهم هو الذي يدفع بنا إلى الأمل في بناء الجيل المنشود من السعوديين والسعوديات الذي سيشكل القوة العمالية السعودية المنتظرة. تلك القوة التي ستأخذ على عاتقها المحافظة على مكتسبات الوطن والارتقاء به إلى مصاف الدول المتقدمة. فالدول والكيانات طال الزمن أم قصر لا تتقدم إلا بسواعد أبنائها.