الطفل المحروم منذ ولادته من كلمة «أبي»، شهد بعينيه الواسعتين وقلبه الصغير رحيل أمه عن الحياة، ليتوقف لسانه عن نطق كلمة «أمي» أيضا.

اعتمر الحزن الطفولي مسارب الأمل في دمائه، وغسلت دموعه الطاهرة المكان، لكن البطل الذي يسكنه لم يخضع، بل ظل ينظر إلى السماء، تاركا أحزان طفولته تبلل الأرض.

في عينيه السوداوين، بدا أن العالم قد يكون ذات يوم أجمل، وفي تأمله الطويل والعميق والمستمر ظهر وكأنه يتهجى الحروف الأولى لسر الحياة العجيب.

خطواته الواسعة وهو يمشي تكشف للرائي أنه حتى السنين العجاف يمكن عصرها واختصارها.

أما ابتسامته المشرقة، فقد أسقطت القلوب في حبالها المخملية، وأما كلماته الدرية فقد كانت نجمة سارية في ظلام مطبق من الصمت الرهيب المهيب.

يتيم في زمن شديد الضراوة. الجوع يحاصر جبال مكة ويتخذها سكنا. والفقر ينام في وديانها الشاحبة المقفرة. ومحمد طفل يتيم. بلا أب، ولا أم. والعائلة عريقة الحسب والنسب. تحوم حول الفقر، والفقر يحوم حولها، والطفل اليتيم ينام طاوي البطن ممتلئ الروح.

ليس لديه الوقت الكافي كي يلهو مع أقرانه، واشتغلت أصابعه الصغيرة بالقبض على العصا التي يهش بها على غنمه، عوضا عن الاشتغال باللعب بالرمل، واللهو بالحجارة، كما كان يفعل الأطفال في سنه.

ولا يكاد الليل ينفصل عن النهار، والفجر يرمي خيوطه البيضاء، حتى ينهض الطفل من فراشه البالي، ليستقبل الحلم الجديد.

لا شيء يلوح في الأفق يدل أن الفراش القديم سيصبح جديدا، أو أن ليالي الجوع التي ينام الطفل محمد في أحضانها ستقصر. فالجد الحنون أيضا قد رحل، والعم فقير الحال والمال، كثير العيال، هو من يأوي محمدا الآن.

ومحمدٌ كلما عاد إلى منزل عمه مساء، بعد نهار حافل بالتعب بين الصخور وفوق الجبال خلف أغنام القوم، بدل أن يشتم رائحة الطعام الشهي، يشتم رائحة الصبر. وطفولته التي يفترض أنها معذبة تسبقه إلى انتظار الفجر الجديد، بأمل باذخ يرفل في أثواب الجمال، وكأنها لم تسر يوما في طرقات الأحداث الشداد حافية القدمين.

من قال إن اليتم يكسر عود الحياة؟ من قال إن دموع الطفولة تشوّه وجه الأمل؟ من قال إن العظمة لا تبدأ منذ الصغر؟!

من قال -قبل ذلك- إن الطفل اليتيم الذي يقفز بجسده الصغير من فراشه ليخفف أعباء الليل الطويل عن عمه المعدم، سيقفز بالعالم من حقبة إلى حقبة، ليخفف عنه أعباء الظلم والظلمات؟!

من قال إن الطفل البارع في جمع شتات أغنام قومه والتوجه بها إلى المرعى، سيبرع في جمع شتات أمة بقضها وقضيضها، ليتوجه بها من مجاهل الجهل إلى شلالات النور؟!

والقدمان اللتان آذتهما صخور الجبال وأشواك الوادي في طفولته، ستؤذيهما أحجار القوم في الكبر، وهم يكذبون دعوته السماوية. لكن البطل ظل بطلا، وقدماه النازفتان تبلل الأرض، لكن عينيه تنظران إلى السماء.

ويد الطفل التي قبضت على العصا الغليظة في هجير مكة لمطاردة الأغنام الشاردة، عادت لتمتد إلى القريب والغريب. إلى العربي والأعجمي واليهودي والنصراني. لتهديهم إلى الصراط المستقيم، ورائحة الصبر التي اشتمها من جنبات ذلك البيت الفقير، لم يلبث أن اشتمّها في سائر أيام حياته.

وليالي الجوع التي نام في أحضانها في طفولته لم تقصر، بل طالت وطالت حتى ربط الحجر على بطنه الشريف من طولها.

والدموع التي سكبها على أمه وجده لم تجف، بل عاد ليسكبها على عمه وزوجته وبناته وأولاده وأصحابه.

في كل مرة، ظل يبلل الثرى بدموعه، ولكن نظرته لا تحدها إلا السماء.

كل أحداث الطفولة المهولة في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العامرة بالكفاح المرير والصبر الكبير، لم تفقده صوابه، بل قادته ليعيد البشرية بأسرها إلى الصواب.

اللهم صلِّ وسلّمْ، وزد وبارك، على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليما كثيرا.