ينطلق غداً الثلاثاء اللقاء الحواري الفكري الثالث حول الخطاب الثقافي بمدينة جدة، الذي ينظمه مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني بعنوان (القبلية المناطقية.. التصنيفات الفكرية وأثرها على الوحدة الوطنية)، ليعود جدل مركز الحوار مرة أخرى إلى الواجهة الإعلامية، وتلوب مرة أخرى وثالثة ورابعة تلك الأسئلة الدائمة عن مدى ما أنجزه المركز في ساحتنا الوطنية، وأين نتائج ما عقدت عليه النخب الفكرية وقت انطلاقته من تطلعات وآمال، تواكب مسيرة الانفتاح التي انتهجها والدنا خادم الحرمين الشريفين - شفاه الله وأعاده إلينا سالماً- ورأينا آثارها في مفاصل المجتمع؟ وهل تبدد الأمل بالمركز بعد كل هذه السنوات الست، وفقد المثقف ثقته بتسريع وتيرة الانفتاح؟. من الطريف أن ضجة إعلامية كبرى قامت قبل أسابيع حيال المركز؛ عندما قام موقع (سبق) بنشر بعض توصيات هذا اللقاء، وكان حديث المجالس النخبوية.

أزعم بأنني متابع جيد لكل ملتقيات مركز الحوار الوطني، وتشرفت بالمشاركة في اثنين منها في مكة المكرمة والأحساء، وللإنصاف؛ فالمركز قام بدور تاريخي - في حقبة حسّاسة جداً- في التقريب بين أطياف شتى ما كانت لتجتمع لولا هذا المركز، الذي أعتبره من وجهة نظري أحد الإنجازات الكبرى في عهد الملك عبدالله يحفظه الله، وشخصياً التقيت بنخب شتى، تفاجأت تماماً بالصورة المغايرة لما انطبع في أذهانها عن الحوار عندما شاركت، وهي التي كان لها موقف سلبي ونظرة تشاؤمية، وكانت ترى تلك الملتقيات مجرد فضفضة وامتصاص حماس النخب، ونوع من التنفيس الانفعالي لجمهرة المثقفين المشاركين، غير أنه من واقع مشاركتهم تبدى لهم بأن المسألة بها كثير من الشفافية والنقاش بشكل صريح دون أي تدخل، وأن كثيراً من الحواجز النفسية بين المتخاصمين ذابت في حوار شفيف، بل كانت القفزة الكبرى والمصداقية الأعلى لتلك الملتقيات عندما تمّ نقلها مباشرة على الهواء عبر أقنية التلفاز السعودية، بدون أي تحرّج ولا وجل من الخروج عن النص، فكل مشارك مسؤول عما يقوله، ولعل الشيخ الصديق د. وليد الرشودي نموذجٌ مثالي لما أودّ الاستشهاد به، فقد قال صراحة وعلى الهواء مباشرة في إحدى القنوات الفضائية بأنه شارك - في لقاء الأحساء- بقناعات مسبقة سلبية، وخرج وهو مصحّح لكثير من تلك القناعات التي استحالت إلى إيجابية، ونظرات تحمل حسن ظن وتفاؤل بتماسك النسيج الوطني الداخلي، رغم تباين التيارات الفكرية والمذهبية.

تحميل مركز الحوار الوطني حمولات فوق طاقته، هو حيفٌ من قبل بعض المثقفين، ففي النهاية هذه الملتقيات هي لإبداء الآراء والنقاش حول موضوع وطني ملحّ في راهن الآن، وهي ساحة لأن تبدي النخب الفكرية والأكاديمية المتخصصة آراءها المتعددة والمختلفة في ذلك الموضوع كي يفيد منه المسؤولون، وقضية الأخذ بتلك التوصيات هي فوق طاقتها، لأن هذه الثقافة تسربل مؤسسات الدولة، ودونكم مجلس الشورى الأكثر إلحاحاً في هذه المسألة، إذ تستغرق دراساته وتوصياته سنين أحياناً، وتفلّ بحثاً وتقتل دراسة من أرقى العقول العلمية في بلادنا، وتنتهي بأنها مجرد توصية!! فكيف نطلب من لقاء يستمر يومين، بين سبعين مثقفاً ومتخصصاً، لا يسمح إلا بثلاث دقائق فقط لكل مداخلة، أن تكون توصياته مفعلة!! أعتقد أن هذا من الحيف والمطالبة المثالية.

الزميل العزيز د. عبدالله البريدي يعلق - في مقالة سابقة له- عن هذا الجزء بقوله: " أنا أعلم أن ثمة من يحمّل (مركز الحوار الوطني) فوق ما يطيق، لدرجة أنهم ينتظرون من الحوار الوطني إزالة كافة الأورام المتراكمة في جسدنا الثقافي؛ الناجمة عن إخفاقنا في زراعة مبادئ الحوار وقيمه وفنونه، وهذا خطأ فادح، فالحوار الوطني - في رأيي- مسؤول عن (الإسهام) في بناء (جيل الحوار) وفق إمكانياته وقدراته دون أن يكون مسؤولاً عن مجابهة (أجيال اللاحوار)، فذاك شأن الثقافة؛ برموزها ومفرداتها ووظائفها ومؤسساتها" (الجزيرة: الأحد 15 ذو الحجة 1431هـ).

هناك نقطة، أودّ من معالي الأستاذ فيصل المعمر ورفقته الكريمة مدارستها، وقد انتبهت وأنا أقرأ في إحصاءات المركز عن قيامهم بإقامة دورات تدريب على مهارات الحوار وثقافته في كل أرجاء المملكة، ومجموعة من المناشط المتعددة، بيد أنني ربما لا أذهب بأن ينشغل المركز بهذه الجزئيات، وأتفق مع أخي د. أيمن حبيب بأن هذه الأنشطة ربما تقوم بها المعاهد والجامعات ومدارس التعليم العام، وليتخصص مركزنا الوضيء في مناقشة المحاور الوطنية الكبرى، فهذا أدعى لأن يبقى بوهجه دون أن يتوه وينطفئ تدريجياً في متاهات هذه المناشط التي ربما كان غيره أولى منه بالتصدي لها وإقامتها.

هناك ملفات وطنية حساسة أمام مركز الحوار الوطني، ولا أعلم لماذا لم يطرح إلى الآن موضوع التعايش بين السنة والشيعة، والمركز ينظر لمبادرات بعض المشايخ والدعاة الخجولة في هذا الصدد. أتصور بأنه آن الأوان لطرح هذا الملف الحسّاس الذي ينبغي قصره على مجموعة المختصين، وبلورة وثيقة وطنية كبرى للتعايش تكون نموذجاً فريداً لكل الدول القريبة منا، فالوقت مثالي الآن ولا تكتنفه الشكوك والريب، بعكس لو أنه أتى في وقت مختلف، فستتناوشها الألسن والظنون، وتخترمها الدافعية السياسية، ولن يكون لها وقتذاك صدى أو أثر.