يجد المجلس قد غص بالناس من الأقارب والأصدقاء الذين لم يلتقوا ببعض منذ زمن ليوقف لقاءهم الحميم، ساردا مواعظه المكررة. يلتفت إلى من بجواره ليقول أنا لك ناصح أمين إياك كذا وكذا، افعل كذا ولا تفعل كذا، وينطلق بعشرات التوصيات دون أن يطلب منه أحد النصيحة أو المشورة.

يقف أمام الجموع ليمسك بمايك المسجد بعد صلاة مكتوبة فيفتتح بكلمة يستعطف بها الحضور «إخواني؛ هي فقط ثلاث دقائق ولن أطيل عليكم….» ثم يستغرق عشرات الدقائق، يكرر هذا المشهد في الأعراس والمناسبات الكبيرة والصغيرة.

يهتبل الفرصة حتى في المقبرة، أثناء دفن ميت، تجده يواصل مواعظه «هذا مصير كل أحد منا يا إخوان، استعدوا لهذا اليوم، فاليوم أنت حاضر بقدميك وغداً تُحضر محمولاً…». وكأن الناس لا يعلمون هذا المصير، وكأن الحضور يحتاجون في هذه اللحظة العظيمة للتذكير. إنها شهوة الكلام وحب الظهور وتسجيل الحضور وتسيّد المشهد في المجالس وحتى في المقابر.

في الحديث الذي رواه مسلم: «حق المسلم على المسلم ست، وذكر منها «وإذا استنصحك فانصح له».

أنظر إلى الجملة البليغة «وإذا استنصحك فانصح له» والتي تشير إلى أن النصيحة تقدم لمن يطلبها ويسألك أن تنصحه أو تشير عليه في مسألة ما. والنبي ?صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم فهو لا ينطق عن الهوى ولهذا اشترط «وإذا استنصحك فانصح له» ومقتضى هذا أن من لم يطلبك النصيحة فلا تقدمها له.

يقول ابن مسعود رضي الله عنه في البخاري ومسلم: «إني أتخولكم بالموعظة، كما كان ?صلى الله عليه وسلم ? يتخولنا بها مخافة السآمة علينا». يُذكر هنا أن ابن مسعود كان يقدم موعظته يوم الخميس فقط من كل أسبوع!

يشتكي البعض فيقول؛ كانت النصيحة تشترى، واليوم أصبحت النصيحة بلا قيمة، وهذا صحيح إلى حدٍ ما، والسبب كثرتها لا سيما مع التقنية الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعية التي جعلت النصيحة فائضة عن الحاجة.

إن النصيحة لها مكانتها وقدرها خاصة حينما ترتبط بقال الله وقال رسول الله، إلا أن كثرة بذلها يدعو لابتذالها وعدم قبولها والسآمة منها كما ذكر ابن مسعود آنفا. تبقى النصيحة ذات قيمة وشأن وعلو مكانة في حال ندرتها وعدم تكرارها والاستخفاف بها، ولهذا اقتصرت الخطبة على يوم الجمعة فقط. وحين تنظر للأحاديث الواردة عن خطبتي الجمعة، ذاتها، تجد الحث على اختصارها رغم أنها مرة واحدة في الأسبوع حتى أن النبي الكريم جعل قصر خطبة الخطيب من علامة فقهه كما جاء عند مسلم بمعناه.

ولقصر الخطبة رغم أنها أسبوعية ملمح كريم من مقام الشرع الحكيم من حيث التخفيف على الناس في النصح والمواعظ حتى أن النبي ?صلى الله عليه وسلم  كان في بعض خطبه يقتصر على قراءة القرآن كمثل سورة ق التي كان يكتفي بقراءتها أو بعض منها كل جمعة.  روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه (كنت أصلي مع النبي ?صلى الله عليه وسلم ? فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً) أي مقتصدة.

فإذا كان الأمر كذلك في خطبة الجمعة وهي واجبة السماع فما بالك في المواعظ التي يتلوها البعض صباح مساء في اللقاءات اليومية والأسبوعية، وحتى في الأعياد والأعراس بل وفي المقابر.  لقد كان أكثر تشريع النبوة في السلوك وليس بكثرة الكلام والخطب والمواعظ، حتى أن الناس أخذوا دينهم من أفعال رسول الله وسلوكه وتصرفاته، ولهذا كان يقول «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وحين شُرعت الصلاة نزل جبريل عليه السلام إلى النبي مرتين؛ في النزول الأول صلى برسولنا الصلوات الخمس، أول أوقاتها، وفي النزول الثاني ??صلى به في أوقاتها الأخيرة، لغرض التعليم العملي. وأكثر النبي من زيجاته لأجل أن تنقل عنه أمهات المؤمنين سلوكه اليومي العملي في حياته الخاصة. وكان أكثر الأحاديث المروية عن الصحابة وأمهات المؤمنين قولهم رأيت النبي يفعل كذا وكذا.

لقد أثبتت الأبحاث العملية أن التأثير الأكثر على المتلقي يأتي من السلوك البصري الذي يحتل ?%55?، بينما 7??% فقط يقع في التأثير السمعي الصادر مشافهة، أما بقية النسبة المئوية فتكون بعوامل أخرى حسية ونبرات صوتية وغيرها.

وبالتالي فإن الناس تريد سلوكا إيجابيا من عشاق الوعظ والنصيحة لا سيما المكثرون منها، الذين يجيدون تصفيف الكلام دون الأفعال، فإذا خرج من مجلس الوعظ رأيت التجهم والمخالفات الأخلاقية وحتى المرورية في أقصى معاييرها وأسوأ حللها، ولو عدنا للحديث الأول المذكور آنفا لوجدنا أن الحقوق الست، استُهلت بحق السلام و«إذا لقيته فسلم عليه»، لكنهم قلة من الأتباع الذين يسلمون ويبتسمون ويفسحون الطريق إلا لمن كان على سمتهم وهيئتهم وحسب، أما البقية فهم مسبلون، حالقون، مدخنون، وبالتالي فهم فساق عصاة يحتاجون لمناصحة ومواعظ ليل نهار، وليس لمعاملة حسنة وأخلاق وسلوك إيجابي!