حادثة الصحفي المتنكر بهيئة طبيب في مستشفيات إحدى المحافظات أخذت حيزا من الاهتمام، وانقسم الرأي العام بين مؤيد لذلك الموقف وبين معارض. فالمؤيدون يرون أن ما قام به ليس إلا لكشف الخلل وخدمة المجتمع والصالح العام، وذهب بعض القانونيين إلى أنه لا تتوافر في ذلك الصحفي أركان انتحال الشخصية. بينما يرى المعارضون أن ما قام به جريمة لا تغتفر، بالاطلاع على أسرار المرضى والكشف عليهم ووصف الدواء لهم وتقديم النصائح الطبية.

لا شك أن التقرير الصحفي يعمل على تأجيج العواطف والتي تؤثر في الأحكام التي نطلقها على الأفراد والأحداث. فنحن في حالة النقد الإيجابي لا نرى سوى المحاسن وفي حالة النقد السلبي لا نرى سوى السلبيات والعيوب. وحقيقة فإن عواطفنا ومشاعرنا تشكل ما يشبه الغشاوة على أعيننا وعقولنا لتقبل النقد، وهذا ما حصل مع الصحفي ومؤيديه ومع المستشفيات وداعميها. لقد رسخ في ثقافتنا وعقلياتنا أن النقد يستهدف إبراز العيوب والنقائص، وأن النقد ليس سوى نوع من الشكوى والإثارة تجاه قضايا من الصعب حلها أو الخوض فيها. والحقيقة أن النقد الهادف يهتم بالواقع الاجتماعي وإمكانية تطويره والارتقاء به، بعيدا عن الشخصنة والتشهير.

إن مجتمعنا كغيره من المجتمعات قد يدخل في مرحلة من الجمود وعدم التجديد فيصبح مستكينا أمام التحديات وعاجزا أمام المشكلات والأزمات. وهنا يكون دور النقد الهادف البناء الذي يطور المفاهيم ويعالج الأخطاء ويصحح العيوب. إن العقلية النقدية الهادفة تتميز بأمور عدة أهمها الشعور بالمسؤولية والسعي إلى المصداقية والوضوح.

ومما لا شك فيه أن النمط الثقافي والاجتماعي والتقاليد السائدة لا زالت تشكل عائقا أمام العقول والمشاعر، وتشكل حاجزا كبيرا أمام الممارسة الفعلية لنقد هادف واعٍ.

إن واقع معظم الجهات الخدمية لدينا لا يتحمل النقد ويستشعر أن الشخص الناقد يمارس نوعا من الهجوم والشخصنة، وتبدأ تلك الجهة في الدفاع عن نفسها بطريقة حادة. وقليل من تلك الجهات الخدمية يرى أن النقد يمكن أن يساعد بالتقدم وتحسين القدرات، وربما قد يرى أن العيب ليس بالنقد وإنما بأسلوب الناقد وطريقة عرضه.

كما أن واقع الشخص الناقد يحتم عليه ممارسة النقد البناء الذي يركز على فكرة موضوعية يمكن قياسها وعلاجها والبعد عن النيات والمقاصد. الناقد المخلص يهدف إلى تطوير الخلل والارتقاء بالمنظومة ولا يكون هدفه إسقاط الآخرين وإبراز ذاته من خلال ممارسة ذلك النوع من النقد. النقد البناء يجب أن يكون بعيدا عن التعصب وإطلاق الأحكام المسبقة، ولا بد أن يتسم النقد بالتجرد والإنصاف في الطرح. إن الناقد المخلص يختار الألفاظ المهذبة ويبتعد عن لغة التجريح والانتقاص من الآخرين وازدرائهم. وعلى الشخص الناقد أن يتذكر أن الطرف الآخر سيتقبل النقد عندما يرى فيه إصلاحا ورقيا.

ورغم كل المعوقات الحالية للنقد الهادف، فيجب علينا الاستمرار في محاولة الوصول لذلك النوع من النقد، ويجب ألا تكون رغباتنا ومصالحنا وكبرياؤنا سببا في أن يتحول الصوت الواضح إلى همس .