موضوع «نسبية الحقيقة» وأن لها أكثر من وجه، وليس بالضرورة «وجه واحد» وأن المهم أن يصدر أي فعل من الإنسان عن قناعة حقيقية واختيار وبنية إدراك الحق، وعليه: فليس لأحد منا أن يعيب على الآخر اختياراته، ما دام هو مقتنع بها، وقد تلمس فيها الحق بنية صافية، وليس عليك الوصول للحقيقة، لكن عليك صدق التوجه لها، أقدّم لهذا الموضوع المهم بحادثة شهيرة وصحيحة وقعت مع النبي عليه السلام، وتأمّل كيف كان النهج النبوي في تقبل كافة الاجتهادات، «مهما تعارضت» وهي حادثة «لا يصلّين أحدكم العصر إلا في بني قريظة» تأمل الحادثة، وتأمل جمال وإنسانية رسول الله، وقسها في حياتك.
عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم، يوم الأحزاب: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلّي لم يُرد منا ذلك فذُكر ذلك للنبي، صلى الله عليه وسلم، فلم يعنِّف واحداً منهم. «رواه البخاري ورواه مسلم».
وقبل أن أعلق على الحادثة: أنقل رأي شارحي الحديث فيها: «هذا الحديث جعله أهل العلم دليلاً على أن من يحق له النظر في الأدلة يجوز له الأخذ بظاهر الدليل من الكتاب والسنة، كما يجوز له استنباط الأحكام منهما عن طريق الاجتهاد أو القياس أو الأخذ بالمفهوم، ففي أعلام الموقعين للإمام ابن القيم: وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام ولم يعنفهم؛ كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، وقال: لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلا، نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس». انتهى.
وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر: قال السهيلي وغيره: في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه، وفيه أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب. انتهى. وفي شرح النووي لصحيح مسلم: فأخذ بعض الصحابة بهذا المفهوم نظراً إلى المعنى لا إلى اللفظ، فصلوا حين خافوا فوت الوقت، وأخذ آخرون بظاهر اللفظ وحقيقته فأخروها. ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين لأنهم مجتهدون. ففيه دلالة لمن يقول بالمفهوم والقياس ومراعاة المعنى ولمن يقول بالظاهر أيضاً، وفيه أنه لا يعنف المجتهد فيما فعله باجتهاده إذا بذل وسعه في الاجتهاد، وقد يستدل به على أن كل مجتهد مصيب. انتهى.
وَاختلف الفقهاء أيهما كان أصوب؟ فقالت طائفة الذين أخّروها هم المصيبون، ولو كنا معهم لأخرناها كما أخروها، ولما صليناها إلا في بني قريظة، امتثالاً لأمره وتركاً للتأويل المخالف للظاهر، وقالت طائفة أخرى: بل الذين صلوها في الطريق في وقتها حازوا قصب السبق وكانوا أسعد بالفضيلتين، فإنهم بادروا إلى امتثال أمره في الخروج وبادروا إلى مرضاته في الصلاة في وقتها، ثم بادروا إلى اللحاق بالقوم، فحازوا فضيلة الجهاد وفضيلة الصلاة في وقتها، وفهموا ما يراد منهم وكانوا أفقه من الآخرين».
انتهى نقلي لكلام فقهاء ومحللي الحدث لكن ما يعنيني حقا هو الفعل النبوي وجماله وإنسانيته، وانظر معي: كان الأمر النبوي واحدا للجميع لكن اختلف فهم الصحابة له، فكانت ردود أفعالهم واستجاباتهم:«متناقضة» تماما ومع ذلك لم يخطّئ النبي أحدهم.
فريق سمع النص وطبقه بحذافيره، فلم يصلِ العصر إلا مع العشاء! رغم أنه بذلك خالف أمر القرآن في الصلاة على وقتها، لكن هكذا فهم لم يعنّفه رسول الله!
الفريق الثاني: سمع النص وطبق معناه، في إرادة النبي سرعة المسير فصلى العصر في وقته، قبل وصوله بني قريظة أي خالف منطوق الحديث، أيضا لم يعنّفه النبي!
فعل الفريقين متناقض، أحدهما صلى العصر في وقته، والثاني صلاه مع العشاء! أحدهما خالف نص القرآن، والآخر خالف نص الحديث، مع ذلك أقرّ النبي كلاهما!
إقرار النبي، صلوات الله عليه، جاء في وقت كان بإمكانه أن يبيّن مراده ويقول لأحدهما أنت أخطأت، لكن لك أجر الاجتهاد مع ذلك لم يفعل، أقر كلاهما على فعله، بربّكم ما يعني هذا!
هنا درس نبوي لذوي العقول: ألا يحملك إيمانك بفعل ما، ولا يقينك بصوابه، على تخطئة الآخر في فهمه مراد الشرع. وأن تتصرف وفق قناعاتك أنت، لا قناعات سواك.
هنا درس نبوي لذوي العقول أن الحقيقة لا يعلمها إلا الله، وستنكشف يوم الحساب أما في الدنيا: فهي لها أكثر من وجه، وكل وجه تصل له بنية صادقة هو وجه لها.
أكرر دوما: الحرية منحة إلهية، الله يريد «عبادا» صادقي النية والفعل وفق قناعاتهم لا «عبيدا» يقولون ما لا يفعلون، أو يفعلون ما لا يعتقدون.
وأكرر دائما الاختلاف سنة بشرية ولا يحق لأحد معاداة خيارات الآخر ما دام لا يضره فعليا ولا يحق له الإنكار عليه، إلا إن كان يملك مفاتح الغيب وأيّنا يملك!