هناك طرفة غربية تقول: «العقل آلة مدهشة بحق، فهي تبدأ بالعمل من اللحظة التي تولد فيها، ولا تتوقف أبدا إلا حين تتحدث أمام الناس»!

صديقي سميث في نادي الخطابة في الظهران من ذوي الخبرة السابقة في مجال التدريب والتعليم، يرتاح جداً في مجال الكلام المرتجل أكثر من ارتياحه في الخطابة المعدة مسبقا. كان يعاني من تحرير وإنشاء خطاب معد مسبقا لأنه يرى نفسه «متحدثا عفويا» فهو لا يجيد الحفظ ويعتبر الإلقاء المجدول تحديا قاسيا بالنسبة له.

سألته، كيف كانت تجربتك الأولى في التحدث أمام الناس؟ قال: كان كل شيء في كياني يرجف، لم أستطع إكمال 30 ثانية حتى وجدت أقدامي لا تساعدني على الوقوف على خشبة المسرح الصغير، ولا العودة باتجاه الكرسي الذي كنت أجلس عليه، حتى بادر أحدهم ووضع يده تحت إبطي ليعيدني نحو مقعدي وكأنني مريض أو ثمل.

يكمل الحديث عن تجربته فيقول: عدت لبيتي لألتقي بزوجتي وأطفالي وأحييهم وأتحدث معهم بأريحية، ثم حين هدأت الأمور بدأت أفكر فيما إذا رآني أفراد أسرتي بتلك الحالة التي كنت عليها قبل قليل، أليس ذلك أمرا مخجلا بالنسبة لي ولهم؟ ولماذا لا أتحدث أمام الناس كما أتحدث أمام أسرتي؟ أو ليسوا بشراً مثلهم؟ بل هم أهم وأغلى عندي من أولئك الذين قد لا ألتقي بعضهم يوما ما.

يكمل حديثه عن تجربته الشيقة فيقول؛ وجدت نفسي أمام تحدٍ كبير لأطمس تلك اللحظة الأولى المرعبة في تجربة الحديث أمام الناس لأجد نفسي متحدثا بارعا أجيد الحديث المرتجل أكثر من الحديث المعد مسبقا.

أخي القارئ؛ إذا كنت، في مثل سميث الآن، تصارع الكلام المرتجل أمام الناس، فثق بأنك لست وحدك وانظر كيف أضحى صديقنا يشرح السبب في ذلك؛ فقد نشر باحثون من جامعة رايس وجامعة جونز هوبكنز وجامعة كولومبيا مؤخرًا استنتاجاتهم بأن قدراتنا على الكتابة والتحدث يتم التحكم فيها من منطقتين منفصلتين، لكن متقاربتين في الدماغ. هذا هو السبب في أن الناس يكتبون بطريقة مختلفة عن طريقة تحدثهم، والعكس بالعكس. عند كتابة خطاب، نقوم بتعديل الأفكار ببطء أكثر، باستخدام عبارات رسمية أقل من المحادثة، غير أننا حين نتحدث -مشافهة- عن موضوع ما، لا نقوم بتحريره بنفس القدر. بعبارة أخرى، نحن نفكر قبل أن نكتب ولكننا نتحدث قبل أن نفكر. بعد التغلب على مواجهة الحديث أمام الناس تأتي عملية التكنيك والمهارات في الحديث الفعال الإيجابي أمام المجموعة الصغيرة أو الجموع الغفيرة، وربما أمام كاميرات التلفزيون ووسط أستوديوهات القنوات. إن الممارس لمهارات وفن الإلقاء يلمس الأخطاء الفادحة التي يقع فيها كثير من المتحدثين، منهم الإعلاميون على قنوات تلفزيونية معتبرة، بل والأدهى من ذلك أن ترى بعض مسؤولي الدولة، إضافة إلى من تحتهم من الوكلاء والمتحدثين الرسميين يرتكبون أخطاء كبيرة.

كل هذا، للأسف، نتيجة لعدم اهتمامنا بهذا الفن الراقي في مناهجنا التعليمية، ولا نشاطاتنا الدراسية العامة منها والجامعية، عدا نشاط يتيم في الإذاعة المدرسية الصباحية لا يرتقي لمهارات ولا لفنون الخطابة والإلقاء.  لن أنسى كلمة بطل العالم في الخطابة لعام 2015، السعودي محمد القحطاني الذي صنع من معاناة التأتأة نجاحا حين قال: «العالم كله يتغير بسبب كلمة واحدة، خطاب واحد، وقد تكون أنت سببا في تغيير هذا العالم للأفضل إذا استطعت أن تقول الكلمة المناسبة في الوقت المناسب بالطريقة المناسبة لأشخاص في أيديهم القدرة على التغيير، فلماذا لا نكون أنت و أنا سببا في جعل هذا العالم المكان الأفضل». بالتأكيد، لا يفترض أن تكون متحدثا بارعا لكن هناك مستويات عليا ودنيا في مهارات الإلقاء والتغلب على الخجل في التحدث، بإمكانك ممارسة تلك المهارات في أحد المعاهد المتخصصة أو أحد فروع التوستماسترز المنتشرة في أغلب دول العالم، ومنها المملكة العربية السعودية، بقرابة 400 نادٍ موزعة بين مناطق المملكة باللغتين العربية والإنجليزية.