نتيجة للتجاهل الذي ظل سمة ملازمة لتعامل المجتمع الدولي مع التهديدات التي تطلقها إيران، بتعطيل حركة الملاحة العالمية، والتجاوزات التي يرتكبها عميلها الحوثي على مرمى حجر من مضيق باب المندب الإستراتيجي، وحالة السلبية واللامبالاة المريبة التي يقابل بها العالم تنامي تلك التهديدات، أقدمت الجماعة الإرهابية على محاولة مهاجمة ناقلة النفط السعودية «الدمام»، وهددت بتكرار ذلك الاعتداء خلال الفترة المقبلة، دون وعي منها بما يمثله ذلك الفعل الأهوج المخالف لكافة القوانين الدولية، والذي يمكن أن يضع العالم كله على فوهة بركان، لا سيما بعد اتخاذ الرياض موقفا قويا بتعليق مرور سفنها الناقلة للنفط عبر المضيق حتى تصبح الملاحة آمنة، حفاظا على سلامة أطقمها، ومنعا لوقوع كارثة بيئية لا يعلم مداها إلا الله، قد تنتج عن تسرب ملايين البراميل من النفط إلى المياه.
لم تكد تمر ساعات محدودة على إعلان الرياض تعليق مرور السفن عبر باب المندب، حتى قفزت أسعار النفط في الأسواق العالمية، وباتت مرشحة لمزيد من الارتفاع، بسبب تزايد تكلفة التأمين، وارتفاع أجور النقل، وغير ذلك من العوامل التي تؤثر تأثيرا فوريا على الأسعار العالمية، بما ينعكس بصورة مباشرة على الاقتصاد العالمي. ومما يزيد من احتمال تواصل ارتفاع أسعار النفط أن دولا عربية أعلنت أنها تفكر في اتخاذ ذات القرار السعودي، مثل الكويت والإمارات العربية المتحدة. وعلى الفور ضجت الأسواق العالمية، وارتبكت البورصات، وأبدى الجميع قلقهم مما يمكن أن يحدث خلال الساعات المقبلة.
القرار السعودي كان قويا وواضحا، وحمل في ثناياه العديد من المؤشرات والمضامين، في مقدمتها أن على دول العالم الكبرى والمؤسسات الدولية التي تحكمه، وعلى رأسها الأمم المتحدة أن تتحرك للقيام بمسؤوليتها وتنفيذ واجباتها، وفرض احترام المعابر الدولية على الجميع، وعدم السماح باستغلالها في أي نزاع سياسي، فالمملكة رغم أنها قادرة – بحمد الله – على الدفاع عن مصالحها، وردع مناوئيها، ومواجهة أعدائها، إلا أنها في ذات الوقت لن تقوم نيابة عن الآخرين بمراعاة مصالحهم، إذا لم يبادروا هم لذلك، ولن تحمل على عاتقها وحيدة مهمة استقرار الأسواق العالمية، فهناك بعض الدول والمنظمات التي يعلم الجميع أنها أرادت – بضيق أفق وانعدام بصيرة - اتخاذ الأزمة اليمنية أداة للكيد السياسي وتحقيق المصالح الخاصة، ولم تبد اهتماما بما يمكن أن ترتبه حالة عدم انسياب شحنات النفط للأسواق العالمية، لذلك فإنها تحصد اليوم حصاد نظرتها القاصرة.
كما أن العالم يدفع في ذات الوقت ثمن انقسام وجهات النظر العالمية تجاه إيران، فبعض الدول الأوروبية تتهافت على استمرار علاقاتها مع طهران، وتعارض الإجراءات الأميركية للتشدد تجاه برنامجها النووي المشبوه، تقديما للمصالح الاقتصادية المؤقتة على الأمن والسلم الدوليين. ولا يخفى على أحد أن الحوثيين لا يمتلكون الأسلحة المتقدمة التي يستخدمونها في أعمالهم الإجرامية، وليست لهم معرفة أو خبرة بكيفية إطلاق الصواريخ وتوجيهها، فهم مجرد جماعة مشتتة كانت تحتمي بالكهوف والجحور، وتمارس السطو والسرقة، وأن الحرس الثوري يقف وراء عملياتها الإجرامية الحالية، تدريبا وإمدادا بالسلاح، وأن مستشاريه هم الذين يقومون بإطلاق تلك الصواريخ على أراضي المملكة ومصالحها، لذلك فإن ردع نظام الملالي وتحجيم قدراته وشكم مطامعه التوسعية أول المداخل نحو تحقيق الاستقرار في المنطقة، والسماح باستقرار العالم واقتصاده.
اللافت في الأمر أن حادثة محاولة الاعتداء على الناقلة السعودية، وهي الثانية خلال العام الحالي، تزامنت مع وجود تراشق وارتفاع في حدة التهديدات بين واشنطن وطهران، فعندما وقع الاعتداء الأول في العشرين من يناير الماضي، كانت الأجواء مشابهة لما هو موجود الآن، من تزايد في حدة الخطاب الإعلامي بين الجانبين، لا سيما مع التحذير الواضح الذي وجهه الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى نظيره الإيراني حسن روحاني، بالكف عن تهديد بلاده، وإلا سيواجه عقابا لم تواجهه سوى دول قليلة على مدار التاريخ. إضافة إلى ذلك فإن بداية شهر أغسطس المقبل سوف تشهد بدء سريان العقوبات الاقتصادية الأميركية ضد إيران، والتي قد تزداد حدتها في نوفمبر، لذلك فليس من المستبعد أن يكون نظام الملالي قد أراد – من خلال الإيحاء لأصابعه الحوثية بتنفيذ الهجوم – توجيه رسالة تهديد للولايات المتحدة، وإذا ما صدق ذلك، وهو الأرجح قياسا على سوء تقدير قادته، فإنها ستكون أسوأ رسالة، لأنها استخدمت أسلوبا لا يمكن السماح به، مما سيؤدي إلى وقوف العالم كله خلف واشنطن في ردع طهران، فالأمن الاقتصادي العالمي ليس مصلحة أميركية فحسب، بل هو قيمة لا يتسامح الجميع مع أي تهديد يطالها.
أيا كانت الأهداف الإيرانية من وراء العملية الإرهابية، ومهما كانت نتائجها وتبعاتها، فالمملكة أوصلت رسالتها الواضحة للجميع، ووضعت المجتمع الدولي أمام طريقين لا ثالث لهما، إما القيام بدوره في ضمان سلامة المعابر المائية الدولية، والقضاء على أي تهديد تواجهه، أو تحمل تبعات ما قد يحدث من ارتفاع في أسعار النفط، وعدم ضمان انسيابه ووصوله للأسواق العالمية، وما يحمله ذلك من اضطراب، فقد سئمنا من مساعي البعض لاستغلال أزمات العالم ومآسي الشعوب لتحقيق أجندة ذاتية، وأهداف خاصة. أما المملكة فلها رب يحميها، وقيادة قادرة على اختيار الأصلح لها، وجيش يصون وحدتها، وشعب قادر على قطع أي يد تحاول الامتداد إليه بسوء، وشعوب في كل قارات العالم، تحفظ جميل صنيعها تجاههم، وتهفو أفئدتهم لزيارتها، وهم على أتم استعداد لتقديم أرواحهم ودمائهم فداء لها وللمقدسات التي تحتضنها.