بغالبية ضئيلة، أقر الكنيست الإسرائيلي مشروع قانون ينص على أن إسرائيل هي «الدولة القومية للشعب اليهودي»، وأن حق تقرير المصير فيها «يخص الشعب اليهودي فقط». ويعدّ هذا القانون دستورا للكيان الصهيوني، إذ لا يوجد لإسرائيل دستور دائم، ودافع بعض السياسيين اليهود عن هذا القانون بالقول: «إن المبادئ المؤسسة لإنشاء إسرائيل، بوصفها دولة لليهود، تتعرض للتهديد. فالمخاوف من معدل الولادات العالي بين عرب إسرائيل، فضلا عن حل الدولتين البديل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، قد يهددان الغالبية اليهودية في إسرائيل، وهو ما شجع الدعوات إلى تشريع يهودية الدولة في قانون»!.

ما زال الكيان الصهيوني يردد النغمة الفكرية المعتادة «أرض إسرائيل الكاملة»، والقانون الجديد ما هو إلا تعبير لهذه الفكرة، وإعادة تشكيل حدود الدولة الصهيونية، ودائما ما تقوم إسرائيل بإقناع المجتمع الدولي بأن العرب يريدون تدمير دولة اليهود بكل وسيلة ممكنة، كما أن العرب لا يريدون سلاما حقيقيا في المنطقة، فليس هناك أي سبب للثقة فيهم، تماما مثل ما كانوا يرددون في الماضي، أن العالم الغربي المسيحي في جوهره المسؤول عن الكارثة والعداء للسامية، والوجود اليهودي في فلسطين، يواجهان خطر الإبادة الجسدية، وخطر إزالة الكيان السياسي، ولهذا تحاول إسرائيل الحصول على الدعم السياسي من المجتمع الدولي، لتبرير التوسع الاستيطاني على سبيل المثال، أو قتل الفلسطينيين، وهذا ما يعكسه القانون الجديد.

فالشيفرة الأساسية في القانون الجديد، تتمثل في النص على «تعزيز المستوطنات الإسرائيلية في أراضيها.. وحماية شخصية دولة الشعب اليهودي»، فالخوف على المصير وعلى الوجود هو الشيفرة المركزية والسياسية التي يعزف على أوتارها السياسيون الصهاينة، وقبل استعراض بنود القانون أكثر، والذي يعكس الإطار الفكري السياسي العنصري والمتطرف للكيان الصهيوني، لا بد من الإشارة إلى أن النظام الاجتماعي السياسي الإسرائيلي يتضمن نزعتين أساسيتين: الأولى، هي خليط من توجهات دينية وقومية متشددة ومتطرفة، والثانية: ذات نزعة مدنية مبنية على مفاهيم حقوق الإنسان والمواطنة، والنزعة المتطرفة هي المسيطرة الآن على النظام السياسي، والدليل على ذلك تزايد شعبية أحزاب اليمين المتطرف، إذ استطاع اليمين الإسرائيلي فرض حق تقرير المصير الجديد لدولة إسرائيل، دون تحقيق توافق مجتمعي واسع عليه، فهناك إعادة صياغة، أو بمعنى أصح تعريف جديد للقومية اليهودية من منظور ديني متعصب ومتطرف، والذي أصبح بارزا في الهوية الجماعية الإسرائيلية، لذا استطاع المستوطنون المتدينون القوميون والأحزاب اليمينية المتشددة، إعادة تشكيل الدولة بما يتناسب مع مفاهيمهم.

لطالما تغنت إسرائيل بالديمقراطية وعلمانية الدولة، وهذا ما ورد في القانون الجديد، إذ نص على أن «الغرض من هذا القانون هو حماية شخصية دولة الشعب اليهودي، بحيث تصدر القوانين معبرة عن دولة ديمقراطية يهودية، انطلاقا من مبادئ إعلان الاستقلال». والديمقراطية تنص مثلا على احترام المساواة بين جميع المواطنين، بغض النظر عن دينهم وأصولهم، وهذه من المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، غير أن مفهومي الديمقراطية والمساواة لم يعد لهما وجود في قانون الدولة القومية، وبدلا من ذلك تُحرم الأقليات غير اليهودية من حق تقرير المصير، كما أن القانون في مضمونه يعبّر عن دولة دينية متطرفة، ليس ضد العرب أو غير اليهود، وإنما على الطوائف اليهودية الأخرى الأقل حظا في الحياة الاجتماعية، مثل يهود الفلاشا واليهود العرب «الشرقيون»، والذين يعدّون مواطنين من الدرجة الثانية في إسرائيل.

تؤكد إسرائيل، في قانون القومية، أن «تعمل الدولة على حماية تراث وتاريخ الشعب اليهودي»، والغرض من هذا القانون هو إضفاء شرعية على الوجود اليهودي في فلسطين، إضافة إلى ربط اليهود بالمكان، على الرغم من عدم وجود أية آثار مكتشفة ذكرت في التوراة موجودة في فلسطين، وتحاول إسرائيل اختراع أماكن مقدسة ترتبط بشخصيات من أساطير الكتاب المقدس مثل «قبر يوسف» قرب نابلس، ومواقع أثرية أخرى مزعومة، الغاية منها ضمان الوجود اليهودي تاريخيا ودينيا.

ومع تزايد الهجرة العكسية من داخل إسرائيل، خاصة من اليهود الشباب إلى أميركا وأوروبا، وتناقص الهجرة إليها، تركّز إسرائيل في قانون القومية على «تعليم تاريخ الشعب اليهودي وتراثه وتقاليده في كل المؤسسات التعليمية لخدمة جمهور اليهود»، والمقصود بالتراث والتقاليد في الثقافة الإسرائيلية، هي المحافظة على الفرائض الدينية وطقوسها، وعلى أحكام الحلال والحرام، والغاية من ذلك هو ربط اليهود دينيا بفلسطين، وإعطاء هدف للوجود اليهودي فيها، والسيطرة والتحكم فيهم، كما تعمل إسرائيل على جعل الدولة مكانا مقدسا لليهود، وأنها المكان المحتوم والطبيعي الذي اختاره الله ليهود العالم.

وعلى هذا الأساس، تحاول إسرائيل أن تكون الدولة المدافعة عن حقوق اليهود في العالم أجمع، وأينما كانوا، فقد ورد في قانون القومية ما نصه «تعمل الدولة بقوة على تعزيز أواصر الصلة بين إسرائيل واليهود في الشتات. وتساعد الدولة اليهود الذين يعانون المحن أو الأسر في أنحاء العالم»، وذلك على الرغم من أن اليهود خارج إسرائيل في أحسن وأفضل حال من يهود الداخل، ولا يفكرون في الهجرة إلى إسرائيل، ولكن الغاية من هذا القانون هي ضمان استمرار الدعم الدولي والسياسي، والتأثير الديني على يهود العالم، خلال التركيز على مصطلح «الشتات».

لقد كشف القانون المسمى بـ«الدولة القومية للشعب اليهودي» فشل المشروع الصهيوني في فلسطين، وكشف أيضا كذبة ديمقراطية وعلمانية إسرائيل، وعدم جديتها في السلام. فإسرائيل في الحقيقة تعاني أزمة سياسية واجتماعية في داخلها، ولهذا رضخت لليمين المتطرف، فكان صدور هذا القانون، وبقيت مسألة الدين حلّا لهذه الأزمات.

فهل ينتظر اليهود المخلص بن دايفد الذي سيقيم مملكة الرب على الأرض في آخر الزمان؟.