قلت للزميل العزيز، تركي الدخيل، بعد عشر دقائق من بداية ـ إضاءاته ـ مع الشاعر، عبدالرحمن الشمري، إنه دفع بضيفه إلى قلب معركة لا يدرك محدداتها ولم يستوعب بعد ردة فعلها القاصمة، وبالاستنتاج، لم يدخلها بسلاح المناورة ولم يتهيأ لها بالتقنية والتكتيك الفكري المناسب. وسأكون صادقاً إن قلت إنني لم آخذ هذا الشاعر على محمل الجد في بدء الحوار، ربما، لأنني لم أقرأه من قبل في ساحة الحراك الفكري المحلي، مثلما لم أسمع له من قبل أية آراء جدلية في صخب الحوار النسقي بين مدارسنا المختلفة. وفجأة استيقظت على قنابله المدوية ولعلها للمرة الأولى في تاريخ تركي الدخيل المليء بالانقضاض على ضيوفه من حيث اللامتوقع، أجده يحاول ـ فرملة ـ الضيف وضبط الإيقاع وكأنه هو الذي يخشى عليه من مفاجآته. تكتشف أن عبدالرحمن الشمري كان صادقاً مع نفسه وهو يقول ما يعتمر فيها بكل الوضوح والشفافية، حتى وإن كان الصدق مع النفس، قد لا يعني صدق كل ما يقول، فهذه ستظل مسألة تقدير نسبية. هنا لابد أن تأخذه على محمل الجد، لا لأنه ضيف برنامج رصين يزدحم إليه أهل الرأي في طابور طويل، بل لأنه قادر على تعليل كل ما يقوله، وعلى تحليل ما ظنه وآمن به.
في الفقرة الصارخة يتحدث عبدالرحمن الشمري في جواب لسؤال فيقول: لقد أعطينا الإسلاميين مئة سنة كاملة من هيمنة مشروعهم فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة هي تفشي الربا والانحلال والشذوذ والمخدرات.. إلخ قوله. وبالطبع لا يمكن القبول برؤيته هكذا بكل بساطة مثلما أيضاً لا يمكن رفض كل ما يقول بذات البساطة. وما قاله عبدالرحمن الشمري بالأمس صارخاً دون تحسين لغوي، سبق أن قلته ولكن بضبط وتبرير، يستدعيه الديالكتيك الإقناعي. قلت شيئاً من هذا في قلب الحوار الوطني قبل عام بالضبط من اليوم، وقلته بعدها بأيام في مقال، والقصة هنا ليست حواراً حول ما قال أو قلت، بل القصة أن نعالج ونحلل الفكرة. هل المشروع الإسلاموي الذي قدمه سدنة الخطاب الإسلاموي، وفق رؤيتهم ونسختهم، مسؤول عن هذه الأمراض الاجتماعية، وهل من العدل والإنصاف أن يتحمل هذا المشروع وحده وزر هذه الأمراض دون النظر إلى المتغيرات والعوامل التي تتقاطع لتبني أو تهدم في جدار هذا البنيان الاجتماعي؟ وعلى الأقل سيجادل من يقول بمسؤولية هذه النسخة من الخطاب والمشروع الإسلامويون (بالمثنى) إن هذا الخطاب وهذا المشروع قد أعطيا فرصة كاملة وغير منقوصة وبالتالي فإنه يتحمل هذه النتائج. والذي سيجادل أن هذا الخطاب أو المشروع لم يعط الفرصة الكاملة، ووحده قد يكتفي برد أرباب ذات المشروع الذين يعلنون على الدوام أن أي فكرة أو مشروع مقابل أو مضاد إنما هو أصوات النشاز التي لا يعتد بها ولا تلقى قبولاً، بل رفضاً مطلقاً كاملاً من المجتمع. هم يقولون إن المجتمع لا يقبل إلا بهم ولا يستمع إلا إليهم وبالتالي فإن من البدهي أن يتحمل أهل القبول والاستماع أي خلل في تركيبة المجتمع الذي قبل واستمع. ومخطئ جداً جداً وجداً، من يظن أننا نتحدث عن الإسلام، بل نتحدث عن رؤية البعض له وتفسيرهم له ونسختهم المنسوبة إليها تصوراً وإلا فالإسلام عبر التاريخ والمجتمعات هو عشرات الرؤى والتصورات التي تصل أحيانا كثيرة للاصطدام ببعضها البعض. المشروع والخطاب المحلي من الدين، يختلف عن نظيره الماليزي مثلما يختلف الأخير عن النسخة المصرية ومثلما تختلف كلها مع الرؤية التركية وكلها مجتمعات مسلمة.
سؤالي: هل يستطيع الإسلامويون ـ هنا ـ أن يشركوا غيرهم في الرؤية ليكونوا شركاء في المشروع، كي يكونوا أيضا شركاء في النتائج؟ حتى يتحمل ـ الآخرون ـ معهم مسؤولية هذه الأمراض المجتمعية؟ هل يستطيعون دعوة المختلفين معهم إلى شراكة اجتماعية كي يبرهنوا أن هذه الأمراض حتمية اجتماعية لا دخل لها بالخطاب أو المشروع؟ خذ هذه الأمثلة: ثلث حالات الزواج تنتهي بالطلاق كأعلى نسبة عالمية رغم أن الرقم الآخر يشير إلى ثلاثين ألف محاضرة وندوة عن الأسرة. نصف مليون حادثة ضبط تسجلها هيئات الأمر بالمعروف وهذا يعني أن واحداً من بين كل أربعة راشدين مر في العام الواحد على الهيئة. نسب مخيفة في المخدرات وفي الشذوذ رغم مليون منشط دعوي في العام الواحد. والخلاصة أن أهل المشروع يخطئون على أنفسهم وعلى المشروع والخطاب نفسه إذا ما أصروا أن تكون نسختهم وتصوراتهم لاعباً وحيداً في تشكيل الوعي المجتمعي. أصروا على الهيمنة على التعليم والمناهج فحمَّلهم هذا المجتمع هذا التدهور الخطير في تعليم أمة. قاتلوا من أجل وضع المرأة واحتضان الشباب فاكتشفنا جيلاً يتململ من قيده الاجتماعي ويجنح بصورة مخيفة. رفضوا للمرأة أن تعمل أو تقود سيارتها فاكتشفنا أن البطالة قنبلة موقوتة. ومن المؤكد أن هذا الخطاب والمشروع ليسا بالمسؤولين وحدهما عن هذه الأمراض الاجتماعية ولكن: كيف يبرهنان أنهما ليسا بالمسؤولين عنها ما لم تعط الفرصة لنسخ أخرى أن تشارك في التصور، وأن تشترك في النتائج وأن تشارك في المسؤولية. هل كل هذه تهم مضللة للإسلاميين فهل يقبلون بشريك في التهمة؟