قبل ما يزيد على 24 سنة، وتحديدا في مغرب السبت الرابع من شهر ربيع الآخر لعام 1415 للهـجرة، سجل الدكتور سلمان العودة شريطا كاسيتيا بلا جمهور أو حضور، وكان المكان في قبو منزل الدكتور ناصر العمر في مدينة الرياض، حينما نما إلى علم العمر أن قرارا صدر بحق العودة والحوالي يقضي بإيقافهما لدى سلطات الأمن السعودي، فاجتمع في بيت العمر مجموعة من الحركيين ذلك اليوم، وكان رأيهم أن يسجل العودة شريطا صوتيا يتكلم فيه عن الوضع والمستجدات بعد خبر الإيقاف، واختار العودة والمجتمعون عنوانا لذلك التسجيل: (رسالة من وراء القضبان)، ظهر الشريط للمرة الأولى بعد شهرين من هذا التاريخ تقريبا، وقد تحدث العودة في هذا التسجيل عما أسماه في ذلك الحين حملة الاعتقالات للدعاة، وقال: «فهذه رسالة من وراء القضبان لكل من يريد أن يعرف قضية الدعاة والدعوة إلى الله -عز وجل-»، وتحدث عن الحرية، وعن الابتلاء، والصبر في سبيل الدعوة، ومواصلة المسيرة، وغيرها من المعاني في هذا السبيل، وأطلق جملته الشهيرة (اسجنونا ولكن أصلحوا الأوضاع) في حالة سقراطية متكلفة.
ومن المفارقات أن العودة عدل عن فكرة إخراج الشريط بعد يومين أو ثلاثة من تسجيله، لعدم تأجيج الموقف، وتخفيفا لبعض ما ينتظره وراء القضبان من مساءلات، وهذا ما عرفناه لاحقا، ولكن الشريط خرج في النهاية، كما أن العودة حول خطابه الديني والشرعي إلى خطاب مدني حقوقي في نقلة براجماتية مفاجئة لعلها من أجل كسب تأييد أكبر أو إعذار أمام شريحة معينة من الجمهور، فشدد على الحقوق والحريات والفساد وغيرها من الهموم المدنية، والتي لم يكن له أو لغيره من دعاة الصحوة أي اهتمام سابق بها أو لها.
وعلى جانب آخر، ومع وصول حمد بن خليفة إلى رأس السلطة في قطر في 27 يونيو 1995، والذي أنشأ قناة الجزيرة بعد خمسة عشر شهرا فقط من توليه السلطة، في استقطاب معروف وظرف معروف، بدأت الدوحة بالبحث عن دور قائد تذهب فيه أبعد مذهب لتحمي نفسها -كما يزعمون-، وهو ما صرح به حمد بن جاسم عدة مرات بلا مواربة، وفي هذه الفترة تمكن حمد بن خليفة والكيان الهَرِم (الإخوان المسلمون) من التوصل إلى صيغة للعمل المشترك، والذي كان من ضمن نتائجه لاحقا حل التنظيم في قطر، وهو الأمر الذي قام به الدكتور جاسم سلطان في عام 1999، وذلك بعد تفعيل غريب لدراسة نائمة كامنة غائبة من عام 1991، تقول بوجوب حل التنظيم في دولة قطر، والتي -أي الدراسة- لم ينظر إليها إلا بعد التلاقي المصلحي بين حكومة قطر آنذاك والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
استطاعت السياسة القطرية الشيطانية تنفيذ أجندتها عبر التعاون مع الإخوان المسلمين في الأهداف المشتركة، وبطريقة واضحة للطرفين، مما مكن الدويلة من خلق قوة ناعمة مؤثرة وفاعلة عبر تمدد الأخطبوط التنظيمي الإخواني في الدول العربية، واحتاجت السياسة القطرية وتنظيم الإخوان إلى نفق سياسي لرسم الطموحات القطرية والأطماع الإخوانية على أرض الواقع، فجاءت التوجهات الأميركية القائمة على إشراك التيارات الإسلامية المعتدلة في الحكم وفقا للسيناريوهات التي أتاحها الربيع العربي 2011 لاحقا، حيث وجد التكوين (القطري/ الإخواني) وبعد محاولات وتجريب كثير وطويل القطعة الناقصة لإكمال صورة الدور الفاعل والمؤثر إقليميا، فشكلت الأطماع الإخوانية مع الفكرة الأميركية الغاية التي كانت تسعى لها حكومة قطر، فكانت العلاقات والصلات الإخوانية والسياسة القطرية هي من قدمت الإخوان كنموذج للإسلام المعتدل الذي يجب أن يشارك بوضوح في المسألة السياسية في الدول العربية الثورية، العسكرية أولا ثم في الملكيات والمشيخات العربية الأخرى، كل هذا على الرغم من معرفة السياسة الأميركية بعمق أن جماعة الإخوان المسلمين مثّلت الأرضية التي سبقت ظهور حركات عنف تتبنى التغيير الثوري بدأت بحزب التحرير ولن تنتهي عند داعش.
هذا التلاقي الثلاثي في المصالح أزاح الورقة الأخيرة عن سوءة السياسة القطرية، وبتصدي المملكة العربية السعودية وأشقائها لهذه الأطماع والطموحات، بدأت تتكشف المؤامرة وخيوط اللعبة الدقيقة، وتحديدا بعد التعديلات والقرارات السعودية الحازمة، والتي مكنت من سرعة الالتفات لمنابع التطرف والعمالة داخل الوطن.
ومما لا يخفى أن الدكتور سلمان العودة يعتبر موظفا رسميا لدى جهات قطرية غير حكومية تمارس نشاطاتها بدعم قطري حكومي لا يخفى على العيان، ويتقاضى منها الأموال تحت مسمياته الوظيفية في كل جهة، وهو يعمل على الأقل في قطاعين قطريين هما:
الأول: اتحاد علماء المسلمين، والذي أنشأته الدوحة برئاسة الدكتور يوسف القرضاوي لدعم سياساتها المؤيدة لأجندة الإخوان المسلمين في المنطقة.
أما الثاني: فأكاديمية التغيير، والتي يديرها الطبيب هشام مرسي، زوج سهام ابنة يوسف القرضاوي، والتي يرتبط بها -أي الأكاديمية- وظيفيا ملتقى النهضة للشباب ويشرف عليه الدكتور سلمان العودة، وكذلك برنامج صناع الحياة ويديره عمرو خالد، ومؤتمر فور شباب العالمي الذي يشرف عليه الدكتور حمزة العمري.
والأكاديمية التي كانت مركزا صغيرا في لندن تطورت ونمت من مرحلة التنظير للتغيير إلى العمل على إحداث التغيير، فعقدت في الدوحة عام 2006 أول مؤتمر لها بعنوان (منتدى المستقبل)، وحضره الرئيس الأميركي السابق كلينتون وابنته ووزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس، ونخب مختارة من مثقفي الوطن العربي والعالم من جميع الاتجاهات، وخلص المؤتمر إلى صياغة (مشروع مستقبل التغيير في العالم العربي)، والذي عبرت أكاديمية التغيير من خلاله عن تطلعها لما سيحدث من خطوات عملية بقولها: (ما يعنينا اليوم هو الإجابة عن أسئلة المستقبل التي ستثور في الأذهان بعد ما يقرب من خمس سنوات من الآن)، أي عام 2011 العام الذي انطلقت فيه شرارة الثورات العربية بعد عمل تنظيمي دؤوب.
إذن: ماذا ستقول الرسالة الثانية من وراء القضبان هذه المرة؟
هل هي هذه المرة قضية الدعاة والدعوة إلى الله، عز وجل، أما أنها تمكين التنظيم الهَرِم، وتنظيم الحمدين من رقابنا؟
هل هي المسؤولية الشرعية والعلمية والاجتماعية التي تشعر أن الله تعالى حملها ووضعها على عاتقك بحسب ما أعطاك، أن تحيل مجتمعك وأرض الحرمين إلى أرض احتراب واقتتال؟
هل فتنة الحمدين ومن ورائهم الإخوان المسلمون وتنظيماتهم، مع الدول العربية ودول الخليج ومع السعودية بالمقام الأول، هي صراع بين الحق والباطل، بين الإصلاح والفساد، بين الهدى والضلال، بين العدل والظلم؟
هل ما زلت ترى نفسك داعية إصلاح تحتاج إلى أن تبرهن على صدقك وإخلاصك، وأنك تخلو من المطامع الدنيوية، وأنك صادق في دعوتك، وأنك مستعد للبذل والتضحية في سبيلها؟
هل ما زال دعاة الحمدين والإخونج يبرؤون من جميع المصالح والحظوظ الشخصية، بل هم يتنازلون عن حقوقهم الخاصة من مرتبات أو أعمال أو أموال أو وظائف، فإنهم لا يطالبون بها ولا يرون أنها بالنسبة لهم قضية تستحق أن يثار حولها كلام طويل، وليس يضيرهم ولا يزعجهم هذا، وليست قضيتهم أن يوجد من يعتدي عليهم أو من يؤذيهم أو يسجنهم أو يتجسس عليهم أو يطاردهم؟
أسئلة كثيرة تحتاج إجابة للتاريخ يوما ما...