يتعرض المجتمع التركي في الوقت الراهن لجملة من التغيرات الجذرية في سبيل التعافي من مشكلات الهوية لديه، فأزمة الهوية التي يعيشها المجتمع التركي ناتجة عن عدم انسجام بين المعطيات التاريخية والثقافية والجغرافية وبين الواقع السياسي والثقافي الذي يفرض على هذا المجتمع.

لقد اعتبر صمويل هنتنغتون تركيا من أكثر الدول التي تعاني حالة تأزم في الهوية، وقد وصفها بأنها من «الدول الممزقة» التي يسعى قادتها لجعلها جزءا من الغرب، رغم أن تاريخها وثقافتها وتقاليدها ليست بالغربية.

ويرى المفكر داود أوغلو مهندس العلاقات الدولية التركية، والعقل المدبر لحزب العدالة والتنمية في كتابه «العمق الإستراتيجي» الذي يعد المرشد المتبع للحزب والكتاب الذي يهتدون بهداه، أن أزمة الهوية التي يعانيها المجتمع التركي بسبب انسلاخه عن إرثه التاريخي، وقد شبه حال المجتمع التركي بحال الشخص المصاب بمرض انفصام الشخصية، حيث يحمل هذا الشخص المصاب بهذا المرض أفكارا وتخيلات لا تنسجم مع الواقع الذي يعيش فيه.

فقد وصف داود أوغلو عملية التحول التي رافقت إنشاء الدولة التركية الحديثة بـ«الانكسار التاريخي» الذي سبب أزمة هوية أدت إلى ارتباك بين النظام السياسي وبين هوية المجتمع ومؤسساته. وحسب أوغلو فإن لتركيا إرثا تاريخيا يتمثل في الإرث العثماني، فهو الطريق الأمثل إذا أرادت تركيا أن يكون لها دور فاعل في منطقة الشرق الأوسط، التي شدد على أهميتها وأهمية السيطرة عليها.

حين تمكن الإخوان المسلمون من الوصول لسدة الحكم في مصر، جاءت الفرصة على طبق من ذهب لحزب العدالة والتنمية للتسلل إلى مصر عن طريق بوابة الإخوان، وعن طريق التنظيم الدولي للإخوان الذي يستضيفه حزب العدالة على الأراضي التركية، والعلاقة بين الإخوان وتركيا واضحة جلية لا يحتاج لها لتوضيح، فقد وصلت العلاقة بين تركيا ومصر في فترة حكم الإخوان القصيرة إلى أعمق مدى، وبدأت تركيا وكأنها تدير السياسة الخارجية لمصر نيابة عن الإخوان، وبمساندة قناة الجزيرة الذراع الإعلامية لتركيا في المنطقة.

تدرك الحكومة التركية جيدا أن من يتحكم في مصر يتحكم في دولة ذات عمق إستراتيجي مهم في المنطقة، ومن يتحكم في مصر يتحكم في أهم وأخطر ممر ملاحي في العالم وهو قناة السويس، ويصبح اللاعب الإقليمي الأول في المنطقة، وحزب العدالة والتنمية بتدخله السافر في الشأن السياسي المصري ومحاولاته المتعددة التأثير على القرار المصري من خلال تغلغلهم في دوائر صنع القرار المصري آنذاك، فإنه يرسل رسالة لمن يهمه الأمر مفادها أن تركيا وحزب العدالة والتنمية يملكان مفاتيح أحد أهم البلدان العربية والإسلامية والشرق أوسطية.

واستمرار دعم حزب العدالة والتنمية للإخوان بدأ يتحول إلى وصاية وتدخل بشكل لا تخطئه عين خبير، حتى جاءت ثورة الثلاثين من يونيو التي فضحت المخططات التركية للسيطرة على مصر، فالسقوط المدوي للإخوان في الثورة المصرية الثانية وما نتج عنه من أوراق مبعثرة على طاولة التوسع التركي، سلط الضوء على مؤامرة كانت تحاك خلف الكواليس لإعادة رسم خريطة إقليمية جديدة، كاشفة عن حقيقة الموقف التركي من الثورات العربية عموما ومن ثورة مصر عام 2011 خصوصا.

كانت ردة الفعل الهوجاء من الجانب التركي تفسر ضياع الحلم وخسارة الفرصة السانحة للسيطرة على الشرق الأوسط، فهم يتعاملون وكأنهم يملكون مصر، يوجهون الاتهامات ويطلقون التحذيرات ويهددون الجيش المصري، في سلوك خارج عن أبسط أساسيات الدبلوماسية، وغير مسبوق في التدخل السافر في الشؤون الداخلية للدول.

لم تتوقف الحكومة التركية عن تجديد أحلامها التوسعية، فهي لا تزال تهاجم الجيش المصري، وتستقبل قيادات الإخوان وتنسق لهم الاجتماعات وتفتح لهم الأبواب في تركيا ليمارسوا أفعالهم وأقوالهم ضد الجيش المصري، بالإضافة إلى رصدهم ملايين الدولارات لشن حملات إعلامية منظمة وممنهجة ضد الجيش المصري، وهذا يؤكد أن حزب العدالة والتنمية لم يقنط من سعيه الحثيث للخروج من زاويته الضيقة، ليضع لنفسه موضع قدم في منطقة الشرق الأوسط.