تروي إحدى الصديقات أنها كانت في غرفة المعلمات مع مجموعة من الزميلات، فدخلت إحدى المعلمات، وعندما وضعت حجابها، كان شعرها مصبوغا بصبغة جديدة، وتمعّنت الزميلات في الشعر المصبوغ، ثم غضضن أبصارهن، لأن اللون لم يكن ملائما لبشرة الزميلة، وبالجملة كانت ردة الفعل مخيبة للآمال. تقول صديقتي:
أنا كذلك لم تعجبني الصبغة كبقية المعلمات، لكن قررت أن «أفزع» للزميلة وأطيّب خاطرها، فقلتُ متصنعة الإعجاب: الله يا فلانة، ما هذه الصبغة الجميلة التي فاجأتنا بها
هذا الصباح.
فانتفضت تلك الزميلة انتفاضة عصفور بلّله القطر، وأمسكت بتلابيبي بفزع شديد، وهي تكاد تبكي وهي تقول: اذكري الله، قولي ما شاء الله، أرجوك قولي لا قوة إلا بالله، وصلّ على النبي، فإن العين حق!
فقلت ما شاء الله، تبارك الله، لا قوة إلا بالله، وصل الله وسلم على نبينا محمد، ولكن ليكن في علمك أن صبغتك رديئة، لونها فاقع، ولا يناسب بشرتك، ولم تعجبني، ولن تعجب أحدا، فقط كنت أجاملك، وأطيّب خاطرك، وآسفة جدا لأنني فعلت ذلك، وأعدك أنني لن أكررها أبدا، لا معك ولا مع غيرك!
مثل هذا الموقف قد يتكرر بصورة شبه يومية، بشكل أو بآخر، وبصور مختلفة، فالعين أصبحت هاجسا يؤرق مضاجع الناس، ويحرمهم من التحدث بنعمة الله عليهم، ويمنعهم من الاستمتاع بأجمل إنجازاتهم.
فالأمّ تقص شعر ابنتها الطويل خوفا من العين، فتحرمها من الاستمتاع بالنعمة التي منحها الله لها، والأب يطلب من ابنه المتفوق ترك الإجابة عن آخر سؤال متعمدا حتى لا يحقق 100% فيصاب بالعين، فيحرمه حق التباهي بإنجازه وتفوقه، والابن يحقق نجاحات متتالية في كلية الطب، بينما الأسرة تشيع أنه متعثر ووضعه ليس على ما يرام، خوفا من العين، والفتاة تعيش -مع أهلها- ليلة زواجها ساعات طويلة من الرعب خوفا من أن تصاب هي أو أحد ذويها بالعين، فتنقلب الأفراح أتراحا.
بل تطور الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، فأصبح كل ابتلاء بالمرض هو عين.
فالسكري والضغط والأورام السرطانية والعمى والبكم والصمم والشلل، هي عين فقط، وليست قضاءً وقدرا أو ابتلاءً، مثلا، بل أصبح الموت نفسه بسبب العين، حتى لو تجاوز عمر الميت الستين والسبعين، وأصبحت الكلمة الطيبة شبهة، بل أصبح محبونا وأحبابنا في قفص الاتهام بسبب العين.
ولن أنسى تلك القصة المتداولة التي وصلتني من معظم جهات الاتصال عندي، التي تقول إن إحدى الفتيات أصيبت بالعمى ليلة زواجها، واستمرت عمياء سنين طويلة، وطبعا لا يخفى عليكم أن سبب ذلك هو العين، لكن المثير في الأمر أن الشيخ المعالج أخبرها أنها لن تشفى إلا إذا مات العائن الذي كان مجهولا بطبيعة الحال، رغم أن مؤلف القصة المحترف -وغالب الظن أنها محترفة- لم ينس أن يخبرنا أن جميع المعازيم ليلتها توضؤوا للفتاة دون جدوى، وبالتالي عشنا في حيرة من أصاب الفتاة بالعين، على اعتبار أنه ليس هناك أي سبب آخر في الحياة لحدوث ذلك سوى العين، فكل الأسباب الأخرى مستبعدة حتى القضاء والقدر، وفي ختام القصة تستيقظ الفتاة المعيونة، وقد ارتدّت بصيرة ليس لأن الله أراد ذلك لحكمة كما أصابها لحكمة، وليس لأنه ابتلاها ثم رفع عنها البلاء، ولا لأنها أرسلت سهام الليل في مناجاة خاشعة، وليس لأنها أجرت عملية ناجحة على يد جراح ناجح، وليس لأنها قدمت لله قربان الشفاء، وتقربت إليه بما يحب، أو تصدقت بأغلى ما تحب، كلا، ولا شيء من ذلك حدث، هي شفيت -وكما تعلمون- لأن والدتها ماتت في اللحظة نفسها التي ارتد إليها بصرها، فكأنها يعقوب، وموت أمها وأحب الناس إليها قميص يوسف.
لذلك، حتى لو كانت العين حقا، فهناك مئات الحقائق الأخرى هي حق أيضا.
وإذا كانت العين حقا، فإن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، فلو كان الأمر بهذه الصورة لانقرض الناجحون والمميزون والمبدعون من العالم، وانتهى الجمال وانقضى الحُسن من الدنيا بسبب العين والحسد، لكن شيئا من ذلك لم يحدث.
عيشوا أيامكم الجميلة، تحدثوا بنعمة الله، واعترفوا بفضله عليكم، وأحسنوا الظن بالمسلمين، ولا تنسوا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا أن الكلمة الطيبة صدقة، وليست عينا!.