ما زلنا نكثر الحديث عن «الكتاب» الذي يقال إنه المرشد نحو الحضارة والمعرفة و«القراءة» التي بواسطتها نحصل على المتعة، ونطرد السأم، ونقتل الملل، وحالهما اليوم، مع وجود تلك المزاحمة الكثيفة لهما من مختلف وسائل الإعلام الجديد، التي تتنوع منصاتها حتى احتار بعضنا فيها ومعها، فأصبح لا يعلم بماذا يأخذ وماذا يترك، وعن حال الكتاب بين جيلين، جيل لا يزال يحتفي بالكتب ولا يمكن له أن يشبع نهمه القرائي، إلا من خلال القراءة من كتاب ورقي، يحمله بين يديه، وجيل قدره أن يعيش ساعات طويلة مع الأجهزة الإلكترونية وهو يتابع وسائل التواصل الاجتماعي ويطارد محتواها، ربما أن صلته مع الكتاب، والصحف الورقية تبدو ضعيفة جدا، لا، بل شبه مقطوعة، عموما قادتني خطواتي ذات صباح من صباحات أبها الجميلة قبل فترة من الزمن إلى أحد مستشفيات المنطقة، وهناك قيل لي، إن أحد الشخصيات الثقافية في عسير يرقد في غرفة العناية لإجراء فحوص طبية، فوجدتني أسارع الخطى لأجل السلام عليه، رغم معرفتي أن الوقت ليس من أوقات الزيارة المسموح بها، وهناك في غرفة العناية، ما إن دخلت عليه حتى لفت نظري ذلك المشهد الذي لن يفارق عيني، فرغم ظروفه المرضية، وتعبه الصحي، ووجوده بين الأجهزة الطبية المحيطة به، فقد توقفت برهة في طريقي نحو سريره، وقد لفني مزيج من المشاعر المختلطة، لا أقدر على وصفها، وأنا أرى الأستاذ «محمد بن عبدالله الحميّد» صاحب زاوية «من وحي الوطن» في صحيفة الوطن، وهو يحتضن كتابا بين يديه، وإلى جواره مصباح ضوئي، عرفت فيما بعد أنه تم إحضاره له من البيت، مع مجموعة من الكتب التي لا يمكن له أن يفارقها، وكيف له أن يحتمل فراقها، وهي رفيقة عمره منذ صباه، لقد رأيته في قمة استغراقه في القراءة، حتى إنه لم يشعر بدخولي عليه، هذا المشهد وأنا أسوق الخطى خارج غرفة العناية بعيد الاطمئنان عليه، وأنا أدعو الله له بالشفاء وطول العمر وحسن الخاتمة، وليس على شفتي سوى همهمة لبيت من الشعر كأنه يصف حال شيخنا «أقلّب كتبا طالما جمعتها... وأفنيت فيها العين والعين واليدَا»، جعلني أتساءل عن جيل مضى، وكيف كان حالهم مع الكتاب الذي يُعد رفيقهم في خلواتهم وجميع أوقاتهم، ولا يزال أنيسهم، كونه النافذة التي يطلون من خلالها على الثقافة والمعرفة في ذاك الزمن، إلى جوار عشق بعضهم للراديو الذي كان يجتذب المثقفين منهم في متابعة الأخبار، والبرامج الثقافية التي أحسبها لن تتكرر، لا تلك البرامج الغنية بقيمتها الفكرية والأدبية، وما تحمله من محتوى هادف، لا تجعلك تأسف على الوقت الذي تقضيه للاستماع إليها، ولن يتكرر ذلك الجيل من المذيعين الكبار، الذين كانوا يعدون مدارس في تقديمهم، ولغتهم وإثرائهم المعرفي، وفي ثقافتهم واحترامهم للمستمع.

حقيقة تحسرت كثيرا، ولا أود أن أفرط في تشاؤمي على حال الكتاب اليوم، وهو يتوارى خلف وسائل التواصل الاجتماعي، ويكاد يغيب وسط النشر الإلكتروني في الإنترنت، ووسائط اتصال الإعلام الجديد، الكتاب الذي كان بعضهم في جيل مضى، يتنازل عن جزء من مرتبه الضئيل ليحصل عليه، ليعيش معه ليالي وأياما، وكان يحرص على شرائه أحيانا قبل أن يشتري الخبز لأهل بيته، وكان لا ينام إلا والكتاب تحت وسادته، أو إلى جواره، وكان بعضهم من شدة فرطه في القراءة وعشقه لها، قد نقل «فراش نومه» إلى مكتبته، وقد سمعت هذا من كثيرين من ذاك الجيل، بعضهم قد رحل عن دنيانا، رحم الله جيلا كان يرى الكتاب أعزّ ما يُهدى، ولعل شيخ المثقفين في عسير الأستاذ محمد الحميّد، كما أسميته ذات يوم، في مقال لي نشر بالمجلة العربية قبل 15 سنة، ينتمي إلى ذلك الجيل الذي عشق الكتاب، ولعل المشهد الذي رأيته عليه وهو في غرفة العناية، يختصر تلك العلاقة الشديدة بين ذاك الجيل من المثقفين بالكتاب والقراءة، وحالنا وحال الأجيال اليوم مع الكتاب ومع القراءة، بالطبع كأني أسمع من يقول «حال يُرثى له»، وهذا هو الواقع الذي نعيشه مع الأسف، حتى شهدنا وسائل التواصل الاجتماعي على تنوعها وكثرتها، بدلا من أن تغذي أطفالنا بالفكر والثقافة بما تحمله من مواد، تنجح في تلويث عقولهم، حتى وصلت في بعض محتواها إلى دفعهم إلى الموت.

عموما الحديث يطول حول الكتاب الذي لا تملّ صداقته، الذي وصفه المتنبي بقوله «أعزّ مكان في الدنى سرج سابح... وخير جليس في الزمان كتاب»، سيبقى أهم مصادر الثقافة، وسيبقى له طعمه الخاص، ونكهته التي لا يمكن لوسائل التواصل الجديد، أن توفرها للقارئ المثقف مهما كانت، ولهذا فمن أجل تعزيز القراءة، وخلق جيل يعشق القراءة ويتكون لديه شغف نحو المعرفة والمطالعة، ونبقي على حضور الكتاب، يجب تفعيل المبادرات القرائية ودعمها، وتشجيع الأطفال من الجيل الجديد على هواية القراءة لإبعادهم ولو قليلا عن الالتصاق الخطير بوسائل التواصل والأجهزة التقنية، التي سبّبت لهم أضرارا لا يمكن حصرها، أضرارا صحية وفكرية، إذا لم تجد من يرشدهم ويوجههم حول ما يمكن متابعته وقراءته، وخطورة تركهم وحدهم مع وسائل الإعلام الجديد، الذي قد لا يقدم لهم ما ينفعهم، بقدر ما يضرهم، ولعلنا مع وجود وزارة مستقلة ستعنى بالثقافة، أن نشهد جهودا تعيد الكتاب إلى مكانته الطبيعية، وأن نشهد مزيدا من الفعاليات التي تجعل هذا الجيل الذي يكاد لا يعرف طريقه نحو الكتاب والمكتبة والقراءة، بقدر ما يعرف التعاطي مع وسائل التواصل الاجتماعي، ومتابعة مشاهير التواصل الاجتماعي الذين غزونا عبر «السناب» باستعراضاتهم الفارغة لحياتهم وشيلاتهم، فمما سمعت به وسرني في مجال تشجيع القراءة، العديد من المبادرات، ومنها ما يرعاها النادي الأدبي بالطائف، مثل «تدوير الكتاب واستبداله»، ومبادرة «فريق إثراء الثقافي»، وكلتاهما تهدفان إلى خلق جيل ثقافي، يعمّق صلته بالكتب والقراءة التي عن طريقهما يمكن أن يرتفع الوعي، لأن الجيل الحالي إذا لم يجد من يعينه على التخلص من عزلته التي فرضتها عليه الأجهزة الذكية، وعيّشته وحيدا مع آخرين مجهولين، قد يعرفهم وقد لا يعرفهم، وقد يكتسب ثقافة سلبية وأفكارا ملوثة أخلاقيا ودينيا، وقد ينجرف إما إلى منزلق الرذيلة والانحراف والانحلال، أو إلى وحل الإرهاب والعنف والتطرف، فلا بد من وجود مبادرات كالتي أشرت إليهما أعلاه، تصنع منهم جيلا واعيا بدينهم وثقافتهم وهويتهم.