في كل عام تفتح الموازنة العامة حديث الوطن عن المستقبل وتحتفي وسائل الإعلام بالحدث وتشرع أبوابها لكل من يريد أن يعبر عن رأيه ومشاعره وأفكاره حيال الميزانية. وحظيت موازنة العام الجديد – كغيرها– بالاهتمام خاصة وأنها تسجل اطراداً في زيادة الإنفاق. فللمرة الأولى تبلغ النفقات التقديرية 580 مليار ريال وهذا يعني أن الدولة ماضية في تنفيذ مشاريعها وفق الخطة الرامية إلى تحسين أوضاع الإنسان واستكمال البنية التحتية.

ويلاحظ في السنوات الأخيرة أن الحديث عن الموازنة بدأ يأخذ اتجاهاً (علمياً) منطقياً، بعض الشيء، وتتسع مساحة مشاركة أهل الاختصاص بعد أن كانت غالبية التناول تتسم بالعموميات غير المبنية على دراسة أو تحليل. ويلفت النظر تزايد الأصوات التي تطالب بأن توجه العناية إلى اقتصاد المعرفة وقطاعات الإنتاج التي تخلق وظائف وتحسن دخل الطبقة الوسطى التي – بدورها – تنشط الاستهلاك إلى جانب من يدعو إلى الاهتمام بتحسين أوضاع الفقراء. وهذا لا شك مطلب إنساني وواجب وطني ملح لأن هذه الشريحة من المواطنين تتسع دائرتها وتتراكم مشاكلها، وإذا لم تعالج قضاياها وتدرس أسباب فقرها فقد يخشى أن تتحول من "الفقر المؤقت" إلى "الفقر المزمن" وينتقل الفقر من كونه حالاً طارئة تحفز الواقعين فيه إلى البحث عن وسائل الخروج منه إلى "منطقة" جاذبة يستقر فيها الإنسان فلا يستطيع الفكاك منها. وهناك أصوات تطالب بأن يكون التركيز على الإنتاج بدلاً من التركيز على مشاريع المقاولات، فقطاع الإنتاج هو القادر على تحريك عجلة الاقتصاد وتحسين دخول الناس وتقوية القوة الشرائية فينعكس التطور والنمو على الجميع بدلاً من تركيز الثروة في قطاعات معينة.

والحديث عن اقتصاد المعرفة يبدو عند البعض، وكأن هذا الاقتصاد "منتج" نستورده أو مصانع نقيم منشآتها على أرضنا وليس منظومة من العلوم والقوانين وبرامج لتطوير القدرات البشرية. هؤلاء الذين يتحدثون عن اقتصاد المعرفة ويصورون أننا ندخل بوابة هذا الاقتصاد، أخشى أنهم لا يعرفون ماذا يعني اقتصاد المعرفة أو أنهم يشاركون في تغييب وعي الناس ويدفعونهم إلى توهم العدم.. وللأسف هناك فئة – حتى في الجامعات ومراكز البحث العلمي– دفعتها الأنانية وحب الظهور للدخول في "تمثيليات" معرفية توحي للرأي العام أننا أصبحنا قادرين على الدخول في عصر إنتاج المعرفة.. وأعتقد أن هذه الفئة تضلل الناس وتدلس على المسؤولين وتشوش على الرؤية الوطنية المخلصة التي تطالب بدراسة الواقع ووضع الخطط العلمية وضمان تنفيذها بصورة سليمة.. وفرقة "الوهم" هذه تربك جهود المخلصين الذين يطالبون بالتزام الحقائق والتركيز على القواعد السليمة التي يمكن أن يقوم عليها اقتصاد سليم يمهد لمرحلة اقتصاد المعرفة. فاقتصاد المعرفة ليس "شتلة" نزرعها في تربة الدعاية ونسقيها بماء الوهم ونظللها بالأحلام ثم نجلس تحتها على أريكة المجاملات ننتظر قطافها.. هذا حلم واهم وخداع بالسراب وأحلام اليقظة.. اقتصاد المعرفة ليس شيئاً مستورداً، بل نتاج وثمرة الفهم والعلم لا ينضج في فراغ ولا يستوطن في أرض لا ترحب به وتعمل لأجله ولا تزدهر قيمه ومفاهيمه وثقافته إلا إذا قادت الجامعات ومراكز البحث العلمي المسيرة واحتضنها المجتمع ورفع من شأن العلم وأهله وأعطاهم مكانهم في مقدمة الصفوف، فلا يقدم عليهم مال الجهل ولا جهل السطوة.

كان الإنتاج في الاقتصاد القديم يعتمد على الأرض ورأس المال والأيدي العاملة في حين يركز الاقتصاد الحديث على: المعرفة الفنية والابتكار والذكاء والمعلومات التي تترجم، في النهاية، إلى ما يعرف بالتكنولوجيا. وتقدر أرقام الأمم المتحدة أن اقتصاد المعرفة يساهم بنسبة 7% من الناتج المحلي العالمي. وطبعا تتفاوت الدول في هذه النسبة ففي الوقت الذي يشكل 50% في الدول المتقدمة يتراجع إلى الصفر في الدول المتخلفة. ومن خصائص اقتصاد المعرفة ابتكار الأنظمة والروابط بين مؤسسات البحث العلمي ومراكز الصناعة والإنتاج والتركيز على القواعد التعليمية القادرة على تزويد الإنسان بالمعارف الصالحة للصقل بالتدريب حتى تتوفر الأيدي العاملة أو ما يطلق عليه المختصون "رأس المال البشري" مع توفير البنية التكنولوجية ونظام الاتصالات الذي يسهل نقل المعلومات في ظل قوانين تسمح بتداولها وتكييفها وفق الحاجة. ولا يستطيع اقتصاد المعرفة أن يكون فعالا إلا مع أنظمة وقوانين تحفز المبادرات المعرفية وتحمي المعلومات وحرية حركتها.

فهل نحن لدينا من الخصائص ما يسمح بدخول مسرح اقتصاد المعرفة؟ وإذا كان لدينا بعضها فهل لدينا الإرادة المحمية بالأنظمة حتى لا نقف في منتصف الطريق؟.

مما يدعو إلى التفاؤل أن أرقام الموازنة التقديرية تدل على اهتمام الدولة "بالإنسان" فموازنة هذا العام خصصت 26% من النفقات (150 مليار ريال) للتعليم والتدريب.. وهذا يعني أن الدولة عازمة على المضي في برنامج الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير التعليم الذي خصص له تسعة مليارات ريال وأوكلت مهمة صرفها – بما يحقق الأهداف– إلى شركة تطوير التعليم القابضة مع استمرار برنامج الابتعاث (12 مليار ريال) وتحسين البيئة التعليمية في المدارس.. كما اهتمت الموازنة بقطاع الصحة والتنمية الاجتماعية، حيث زيادة مراكز الرعاية الصحية الأولية وزيادة استيعاب المستشفيات وتحسين أوضاع المتوفر منها والاهتمام بمعالجة قضية الفقر.

كل هذا شيء مبشر يدعو إلى التفاؤل، لكن ما يدعو للقلق هو تجارب التنفيذ التي عرفتها مشاريع التنمية في بلدنا ، فطوال السنوات الماضية – باستثناء فترات قصيرة– لم يكن عدم توفر الأموال هو العلة بل كان إنفاقها في أوجهها الصحيحة وبصورة سليمة هو المشكلة حتى باتت مشاريعنا تعاني من علتين خطيرتين: التأخير وسوء التنفيذ.

وسوء التنفيذ سبب بشري يتعارض مع "المعرفة" التي ستكون الأساس الذي يقوم عليه أي توجه نحو اقتصاد المعرفة.. ولهذا نحتاج إلى خطوات عديدة قبل التبشير بالدخول في اقتصاد المعرفة نحتاج إلى نظام إداري ناجح يخلق روح المسؤولية ويوفر ضوابط الرقابة، ويتبنى مفهوم مكافأة المحسن ومعاقبة المسيء، ثم نحتاج إلى بناء الإنسان الذي يستشعر مسؤوليته باعتباره عضواً في منظومة الإنتاج، ونحتاج أبحاثاً علمية جادة لا يشغلها بريق الدعاية، واستغلال المال العام لبناء الأمجاد الخاصة. الدخول إلى اقتصاد المعرفة قبله توفير بيئة علمية حقيقية وثقافة علمية نابعة من المجتمع وليست ثقافة مستوردة لا تتصل بمنابعها.