في رأيي المتواضع، وأنا لا أنتمي إلى قبيلة الأدباء أو المثقفين أقول، لم يكن هناك أروع من فكرة إعادة الحياة إلى سوق عكاظ، وجعله واحدا من كبريات الفعاليات الثقافية، ليس على مستوى بلادنا السعودية فحسب، بل على مستوى الوطن العربي الكبير، ولذلك أنا أعدّه أهم درس من دروسنا الثقافية التي يجب أن تتلقاها الأجيال، فما قُدم ويقدم عبره من فعاليات ثقافية مباشرة في الأيام الفائتة لمرتاديه من الزائرين لفعالياته من مستوى الأعمار ومن الجنسين، في ظني أنها قد أتاحت لهم، ولكل من قرأ في بطون الكتب عن سوق عكاظ قديما، أن يستعيد متأملا تلك الأحداث في نفس الموقع التاريخي، وكأنه قد مُنح بجولة عبر التاريخ ليقوم من خلالها بعملية توثيق حية لأحداث السوق، سوق عكاظ الذي بدأ كسوق للتجارة، ثم ما لبث أن تطور إلى أن يتحول إلى منتدى للشعر والأدب، وتلاقح الأفكار، وتمازج اللهجات العربية التي كانت، تتباين بتباين الجهات التي قدم منها العرب آنذاك، وتبادل الأخبار، وعموما فلا شيء يوازي في حاضرنا اليوم متعة تعادل متعة إمتاع العقل من الثقافة والأدب، في ظل ذلك الزخم من وسائل الإعلام الجديد التي تبث كل ما هو سمين وغث، جيد وسيئ ويتلقاها أجيال اليوم.

عموما كما بدا لي أن فعاليات عكاظ تضمنت الكثير من المسامرات الشعرية، والأمسيات الثقافية، والندوات، والمسرحيات الشعرية القصيرة التي تمسرح في دقائق بين الزوار ومعهم، بشكل مدهش ومثير، تجعل من يشاهد تلك الفعاليات عبر الشاشة، وهو بعيد عن سوق عكاظ، يتمنى لو يطير على جناح السرعة إلى حيث هناك، ويستمتع وهو يشاهد ويستمع إلى عيون من قصائد عمالقة الشعر، لشعراء كانوا يرسمون المشهد الحقيقي لسوق عكاظ في ذاك الزمن.

سوق عكاظ هو المكان الحقيقي، والمسرح الذي يجب ألا تفوت زيارته على من يستطيع الوصول إليه، مصطحبا أبناءه كي يطلعوا على تاريخ يعكس هويتهم المتجذرة في أعماق التاريخ، وينعموا برؤية المكان الذي كان مدرسة في الشعر والفصاحة والبلاغة، إلى جانب ما كان يؤديه السوق من مؤتمر اقتصادي أدبي ثقافي اجتماعي، بطريقة عفوية في ذلك الموقع، الذي نجح قادة البلاد -وفقهم الله ورحم من مات منهم- وكان له جهود في إعادة الحياة إليه، واستثماره كموقع أثري يحمل تاريخا حضاريا، كواحد من أقدم أسواق العرب وأشهرها على الإطلاق، حيث كان العرب يفدون إليه، حيث يمكثون فيه العشرين يوما الأولى من شهر ذي القعدة وهم «يتعاكظون»، أي يستثمرون وجودهم في تبادل الشعر وعرض القصائد، وتبادل الأخبار، إلى جانب ممارستهم التجارة بيعا وشراء، حتى يرحلون إلى سوق آخر يسمى «مجنّة» ثم يمكثون فيه حتى يهل عليهم شهر ذي الحجة، فيرحلون إلى سوق «المجاز» الذي يظلون فيه حتى يوم التروية، إنها أيام ومواقع من أيام العرب ومواقعهم التي يجب أن ندرسها ونحييها ثقافة وأدبا.

حقيقة هي فرصة لمن تسنى له حضوره، فقد أعطى نفسه فرصة الاستزادة من تلك الدروس الثقافية، من خلال معايشة حية لما كان في سوق عكاظ، الذي اجتهد مجموعة من المثقفين والأدباء في تحديد موقعه الأصلي، وعلى رأسهم الأديب الراحل صاحب برنامج «من القائل» الإذاعي الذي تحول فيما بعد إلى واحد من أهم المؤلفات الأدبية، وهو الأديب «عبدالله بن خميس»، بأمر من الأمير فيصل بن فهد -رحمة الله عليه- الرئيس العام لرعاية الشباب آنذاك، الذي كان لديه تصميم على إعادة الحياة لذلك السوق التاريخي، وقد دعا إلى المؤتمر الأول في بداية شهر ربيع الأول من عام 1395.

وأنا أقول إن أمام الأجيال الحاضرة فرصة أن يعيدوا توثيق هويتهم الثقافية بتعرفهم على سوق عكاظ، الذي أتمنى أن يتحول إلى مزار مفتوح، ليس في وقت أيام إقامة المهرجان، بل في كل الأوقات، حتى تكون لدى طلاب المدارس فرصة لزيارته، فهم بحاجة إلى تذكيرهم بتاريخهم، وإرثهم الأدبي الثقافي، خاصة أن هناك نسبة منهم يعيشون -حقيقة- غربة ثقافية، ويكاد بعض الناشئة من أجيال اليوم يجهلون تاريخ بلادهم، وإرثه العظيم من الأدب والثقافة، والمواقع التاريخية المهمة، بينما يعرفون الكثير عن برشلونة وريال مدريد وميسي ورونالدو، وهذا القول حينما أسجله هنا، ليس من قبيل جلد الذات، بقدر ما هو ذكر لحقيقة مؤلمة.

وأنا من خلال متابعتي لأخبار سوق عكاظ في الأيام الفائتة، ومنذ بدأ أولى دوراته والجهود الكبيرة التي يبذلها أمير مكة الأمير خالد الفيصل في رعايته لإنجاحه، فقد علمت بأن هناك برنامجا ضخما منوعا، فإلى جانب عرض لأهم قصائد عمالقة الشعر من شعراء العرب العكاظيين من أمثال عنترة بن أبي شداد، وزهير بن أبي سلمى وعمرو بن كلثوم، وامرئ القيس، والأعشى، وقيس بن ساعدة أخطب خطباء العرب صاحب الخطبة التي منها «ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج...»، والخنساء التي أنشدت في سوق عكاظ «وإن صخرا لتأتم الهداة به.. كأنه علم في رأسه نار»، وحسان، وطرفة بن العبد، وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن الذين كانوا يرون في عكاظ منصة إعلام لقصائدهم، ومن بينها المعلقات، ممن كانوا يلتفون حول خيمة كبير الشعراء، وناقدهم الكبير «النابغة الذبياني» التي تنصب له قبة من «أدم» من الجلد، ليعرضوا عليه قصائدهم ويقوم بتقييمها، إضافة إلى أن سوق عكاظ يحتفي باستعراض الحرف اليدوية، والعروض الصوتية والتلفزيونية، واستعراض الخيل والجمال والمهارات الفروسية، إضافة إلى برامج أخرى مزجت القديم بالحديث، حقيقة إن سوق عكاظ، الذي يدخل دورته الثانية عشرة، جدير بالزيارة، وهنيئا لمن حظي بالقدوم إليه وأعانته ظروفه إلى ذلك.