بعد أن هدأت عاصفة المتحدثين عن «مسلسل العاصوف» على اختلاف توجهاتهم المناوئة والموافقة، المناوئون: الذين يرون أن ذلك المسلسل «العاصوفي» مسيء لأنه يحكي أن المجتمع قبل أربعة عقود ظهر فيه الفساد والمعازف والزنا وشرب الخمر، ويرون أن هذا كذب، وفيه إساءة للآباء الذين عاشوا في تلك الفترة من جهة، وتهوين لتلك المنكرات أمام الشباب الصاعد، لإيهامهم بأن ذلك ما كان عليه مجتمع آبائهم وأجدادهم من جهةٍ أخرى.

والموافقون: الذين يقولون إن ذلك المسلسل ليس مسيئا، فهو يحكي الواقع آنذاك، والمجتمع الطبيعي هو الذي تكون به ممارسات مختلفة، والتعددية مطلوبة، لأن ذلك يدل على الاعتدال والبعد عن التطرف، وأما الخمر والزنا فقد وُجدا حتى في زمن النبي عليه الصلاة والسلام.

هذان الرأيان تم تداولهما، وقد قلتُ لمن سألني عن رأيي حول ذلك، قلتُ له: لست من متابعي المسلسلات في حياتي، ولا أدري هل فعلا تضمن المسلسل المشار إليه ما قيل عنه أم لا، ولكن - على فرض أنه صح ما نُقِل عنه - فإني أقول: بصفة عامة، وبمنهجية شرعية، إن معرفة الحق، والمنهج المعتدل، يُعرَف بموافقة الدليل من الكتاب وصحيح السنة، وعدم مخالفتهما، قال تعالى (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)، وقال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول..)، وقال تعالى: (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين)، فالحق يُعرَف بموافقة الدليل، وليس بمطابقته واقع الناس القديم، ولا واقعهم الحديث، فالدخان على سبيل المثال أمرٌ واقع، ويبيعه التجار، ولكن هذا لا يدل على إباحته، وهناك أمور مباحة لم توجد في الواقع بعد، وليس هذا دليلا على تحريمها، وكل مسلم عاقل سالم من الأهواء: يعلم أن واقع الناس، أو ما كان واقعاً بعد أن لم يكن، ليس دليلا شرعيا يُعرَف به الاعتدال أو الاعوجاج، ومن احتجّ على تسويغ ما لا يجوز بأن آباءه كذلك كانوا يفعلون، أو رفض ما أباحه الله بكونه ما سمع بهذا في آبائه الأولين، فحجتهما داحضة، لما تقدم من أن الحجة لا تكون إلا بموافقة الدليل فقط. والآباء والأجداد يؤخذ من قولهم وفعلهم ما وافق الدليل الشرعي، فإن خالفوه طولبوا بتركه.

وإذا سلمنا بوجود الزنا والخمر ونحوهما من المخالفات في أفرادٍ من ذلك المجتمع، فهذا لا يعني أن المجتمع يتقبل ذلك، بل ذلك منكر في نظرهم، ويقام الحد الشرعي على من فعل ذلك، فبلادنا تطبق الحدود الشرعية منذ تأسيسها، اقتداء بفعل النبي عليه الصلاة والسلام الذي أقام الحدود على فاعلي تلك الجرائم.

وأما القول إن وجود المخالفات مطلوب بحجة التعددية، المؤدية للاعتدال وعدم التطرف، فهذا القول من قلب الحقائق، وانتكاس الفِطَر، كيف يكون ما نهى الله عنه ورسولُه اعتدالا، وما أمر الله به ورسوله تطرفا؟ هذا من تلبيس إبليس، ومن وساوس أهل الشهوات، وقد قال الله تعالى: (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيما).

إن الخطأ والمنكر موجود في كل زمان ومكان، فلا يصح نفي وجوده، فالناس ليسوا معصومين، وليسوا كالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم، بل قال النبي عليه الصلاة والسلام (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)، وهذا يدل على سعة رحمة الله، ووجوب التوبة، ولا يدل على الترغيب في فعل الذنوب، فالذنب والمنكر قد يوجد، ولكن يجب إنكاره، وفق المنهج النبوي بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وليس وفق طريقة الخوارج والمعتزلة، الذين يتخذون من تلك المخالفات سُلَّما للإثارة والتهييج، وربما التكفير والخروج على الولاة، وتسويد المشهد، وكأن الناس هلكوا، وفي الحديث الصحيح: (من قال هلك الناس فهو أهلكهم).

ومن الخطأ أن يُقال: إن «الصحوة» هي التي أزالت ما ذكروه من مخالفات شرعية، هذه تزكية بالمجان للصحوة، والصواب: أن ولاة الأمر، والعلماء الراسخين هم الذين يأمرون الناس بالخير، وينهون عن الشر والمخالفات، ويقيمون الحدود، وأما «الصحوة» فما رأينا منها إلا التحزب، والتوجس، والتوحش، وسوء الظنون، والامتدادات مع حركات حزبية خارج الحدود، فهم لا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا، وإنما سلطوا الأعداء على بلاد المسلمين، ودعوا هم وأصحابهم الليبراليين إلى الثورات والمشاغبات، هداهم الله، ورزقنا وإياهم وجميع المسلمين سلوك صراطه المستقيم.