«بلاش فلسفة» كلمة دارجة في حياتنا اليومية على مستوى الكثير من المجتمعات العربية، وكأننا من خلال هذه العبارة نمقت ونُسفّه التفكير العميق والاستنباط الفلسفي. ولكي نُسكت شخصا ونطْبق فاهاً عن الحديث، نقوم باستدعاء جملة «بلاش فلسفة».
وعليه، فإننا نمارس حربا يومية على الفلسفة التي هي أم العلوم وأصلها، وجوهر النهضة والعلوم والتقنية التي نتقلب في نعيمها اليوم وغدا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أصل «فلسفة وفيلسوف» جاءت من الكلمة اليونانية «فيلوسوفيا» المركّبة من كلمتين «فيلو» التي تعني حبا، و«سوفيا» وتعني حكمة أي «حب الحكمة». قيل لفيثاغورس أنت «سوفيا/صوفيا» أي حكيم، فقال لست كذلك، بل أنا «فيلاسوفيا» أي محب للحكمة -ربما تواضعا منه- وإشارة إلى أنه يحب الحكمة ولا يدعي امتلاكها.
وعلى ذكر فيثاغورس المتوفي سنة 530 قبل الميلاد، فهو الفيلسوف والرياضي والفلكي والمفكر العظيم. ومن منا لا يذكر نظرية فيثاغورس في منهج الرياضيات. قد يغيب عن الكثير أن عصرنا الحديث، رغم التقدم والنهضة والتقنية والاكتشافات الهائلة، إلا أنه مدين بعلوم الفلاسفة من العصور القديمة باعتبارها الثقافة الأصيلة التي وضعت الأساس للحضارة الغربية التي نشأت منذ أكثر من 2500 سنة منذ طاليس (624?-?546 قبل الميلاد) عالم الفلك والرياضيات المعروف، مرورا بعصر سقراط وأفلاطون وأرسطو إلى ما بعدهم من فلاسفة العصور الوسطى في القرن الخامس الميلادي وما تلاه، بمن فيهم الفلاسفة المسلمون. ما زالت جامعات العالم الحديث تُدرّس نظريات فلاسفة عصور ما قبل الميلاد، مما يعني أهمية الفلسفة في حياة البشرية مهما تقدم بها العلم.
منذ العصور القديمة جدا كان للفلاسفة دور كبير في النظر للظواهر الطبيعية وماهيتها، وكان همهم الأكبر هو الأسئلة المنطلقة من الدهشة عن ماهية الأشياء من حولهم والبحث عن أجوبتها. لذلك فإن العلم مرتبط بفلسفة السؤال، وبالتالي لا بد أن يكون العالِم فيلسوفا ومفكراً والفيلسوف عالما ومفكراً أيضا.
السؤال المنبثق عن الدهشة هو منبع الفلسفة وجوهرها، لهذا يقال إن كل طفل يُعدّ فيلسوفا صغيرا لأنه مندهش بما حوله، وبالتالي هو دائم التساؤل. أسئلة ماهية الأشياء وكيف نصنعها هي التي قادت العلماء والمفكرين لما نحن فيه من تطور ملأ الآفاق. تساءل الفيلسوف نيوتن عن سبب سقوط التفاحة ليكشف لكوكب الأرض نظرية الجاذبية والتي كانت حجر الأساس لعدد من الابتكارات. إن أغلب ابتكارات واكتشافات الإنسان العلمية، على وجه الخصوص، لا بد أن يكون قد سبقها تساؤل حرّض العقل على الإلهام، لأن العلوم مدفوعة بالأسئلة الجوهرية التي تطرحها الفلسفة.
وبالتالي فإن الفلسفة هي تساؤلات لاستنهاض الفكر، إذ لا يمكن دخول عالم الفكر إلاّ بالسؤال.
يُذكر أن الفيلسوف الكبير سقراط، لم يكن مستقرا في بيته، فمنذ الصباح الباكر إلى المساء وهو خارج منزله، ينطلق إلى حيث الأسواق والمزارع وتجمّع الناس ويجلس مع كل من يصادفه ليسأله عن أي شيء وحين يجيبه الآخر بجواب يسأله عن الجواب نفسه. فهو يقول، مثلا، لمن يلقاه:
كيف حالك؟ ليرد الرجل، بخير. فيبادره سقراط وما هو الخير؟ ليجيبه الخير هو السلام والصحة والحياة، ليذهله سقراط بالسؤال عن معاني السلام والصحة والحياة… الخ!
ميزة الفلسفة أنها تفتح الآفاق للبحث عن كل شيء -مهما كانت غرابته- لغرض المعرفة والاطلاع، وتتطرق الفلسفة إلى مناحي الأخلاق الجميلة والقيم والمبادئ الإنسانية الراقية، فضلا عن معالجة أمور هي من صلب الاهتمامات العلمية والحضارة والتطور.
ولو رجعنا إلى تاريخ الأمم ذات النهضة والازدهار لوجدنا أنها حققت هذا عن طريق الفلسفة والعلم وما ينتجانه من رؤى وتصورات مباشرة وغير مباشرة.
البعض يعتقد أن الفلسفة وعلومها غربية الولادة والمنشأ، وبالتالي فهي دخيلة على مجتمعاتنا المسلمة، بينما الواقع يقول إن الفلسفة من حيث أصلها المنبثق من طرح الأسئلة والحوار حولها، ليست بالشيء الدخيل على حياتنا البتة، بل نحن نمارسها من خلال نقاشاتنا وحواراتنا اليومية، وبالتالي فلن نستطيع أن نكف عن التفلسف اليومي ولو حرصنا، فأنت تقتلنا حين تقول «بلاش فلسفة».