أريد أن أجلس مع نفسي، لا يهم المكان أو الزمان، فقط أنا وأنا، أريد أن أراقب غيمة تتحول بين ناظري إلى أشكال يرسمها خيالي، أن أجلس في قلب سوق أو أتمشى في شارع مزدحم أرى كل الناس، وأسمع كل شيء، ولا أرى ولا أسمع سوى

ما أريد أن أراه، وأسمع ما أريد أن أسمعه، أن أضع السيناريو والخلفيات وأنا أتحكم بالحوار! ما يدور في رأسي هو المخرج، وعيناي هما من تحددان الكادر والحركة! أريد أن أمسك قلمي وأكتب كل ما يجول بخاطري دون قيود أو حواجز!

أريد أن أجلس إلى نافذة، أي نافذة، وأراقب زائري المفضل وهو يغرد يقترب حتى أراه ثم يطير بعيدا ثم يعود ليسرقني من نفسي ويحلق بي حتى أصل إلى غيمتي، ومنها أتحول إلى نقطة ندى وأجد أنني أفترش ورقة على طرف زهرة برية ثم أسقط منها إلى التربة من تحتها، وهناك في قلب الأرض أسمع صوت نبضها كدقات طبول قبيلة أفريقية، تلتقطني إحدى النغمات، وتحملني إلى حبة عقد على عنق صبية من النوبة، أدور حول عنقها وهي تركض مسرعة تحاول اللحاق بمركب يحمل خطيبها بعيدا، وفِي لحظة يأس تمسك بي وتشدني بقوة ينفرط بها العقد وتتناثر حباته على الأرض حولها، ولكنها لا تبالي فأنا ما زلت بين أصابعها، وفجأة تتوقف وتقذف بي إلى أعماق النيل، وتبدأ رحلة الغوص إلى الأعماق بهدوء وصمت، وبينما أنا أحاول أن أستوعب كل ما حولي وإذ بسمكة صغيرة تبتلعني وتسرع إلى السطح حيث تقذفني على الشط، هنا تقترب طفلة صغيرة وتحملني بيدها الصغيرة وتقلبني لتأمل الألوان التي تحيط بي مع انعكاس أشعة الشمس، هنا تسمع صوت والدتها تنادي فتتوقف تبتسم ثم تدفعني داخل صندوق خشبي مع بقية ما كانت قد جمعته، ظلام يحيط بي مرة أخرى... صوت بعيد يقترب ثم يعلو ويعلو فأمد يدي إلى جهاز الهاتف وأعود إلى الواقع: «نعم عزيزتي معك ميسون».

هل وراء ما ذكرته عبرة؟ هل أردت أن أقدم درسا أو رسالة ما؟ كلا، إنها فقط لحظات تجلي وخيال حولتها إلى صور ورحلت معها تاركة لروحي الخيار فيما تريد أن تكون، وأين تريد أن تكون، وماذا تريد أن تكون! الأرض السماء الهواء لي فلِمَ لا أحلق، لِمَ لا أنطلق؟! لقد تبلد الخيال لدينا ونسينا طعم الإبداع الذاتي، نسينا أن الإبداع لا يخلق إلا من قلب الخيال! نخاف أن نسرق ولو سويعة من يومنا وكأن كل لحظة يجب أن يخطط لها، يجب أن نطور مثل عقارب الساعة وإلا لدغتنا، نهاب السير عكسها، فقد تتوقف الطاحونة ولا يخرج الدقيق ونحرم من رغيف الخبز من لقمة العيش!

هل لاحظتم كمية الكتب التي تتحدث عن التنمية الذاتية؟ يكاد لا يخلو بيت منها، هذا إضافة إلى الدورات وورش العمل التي بات يعلن عنها ليل نهار، وفِي جميع الوسائل! نحضر الدورات ونجمع الشهادات وبالنهاية ما نسبة التطبيق في حياتنا؟ حقا لنسأل أنفسنا ونجيب بكل شفافية فلا يوجد من يراقب أو يحاسب سوى الفرد ونفسه! وإن دخلنا وسائل التواصل الاجتماعي نجد الكثير -إن لم يكن الغالبية ممن يقدم النصيحة- افعل أو لا تفعل، كن أو لا تكن، احذر هذا وانتبه من ذاك، قلد هذا وهذا وذاك! دروس، عبر قصص واقتباسات لأقوال حكماء ومشاهير تعرض كل لحظة بل كل ثانية! هل نطبق؟ هل نعتبر؟ ما النسبة فيما نطبقه منها؟ ثم أليست هي أيضا ما تأخذ من وقتنا حتى وإن كان فقط «قَص ولصق أو تدوير»!

لست ضد تنمية الذات أو إعادة تدوير كل ما هو مفيد، ولكن إن كان تفعيل الخيال وسويعات الارتخاء والتأمل تحمل فوائد كبيرة لنا، خاصة أنها نابعة منا وعليه تأثيرها أقوى وأطول على المدى البعيد، وأنها تساعدنا على التحكم في التحديات من خلال التوصل إلى حلول إبداعية تتماشى مع الحالات الخاصة لكل فرد منا، وليست مجرد تطبيق ونقل لخبرات الغير في حالات ربما مشابهة، ولكنها تظل غير متطابقة مع حالاتنا، إذاً لماذا لا نعطيه، أي الخيال، نفس الحيّز ونفس الأهمية في حياتنا؟! وبدلا من قضاء الوقت في البحث خارج أنفسنا أو داخل النسب القليلة مما نتذكره من دورات أو أقوال وحكم، لنجرب خيالنا ولسوف تبهرنا النفس البشرية المتمكنة من خيالها والمتدربة على التأمل، كلا إنه ليس كسلاً أو مضيعة للوقت أو تخريفا أو هذيانا!

القلم بيدك والأوراق أمامك فاملأ الأسطر بقوس قزح من روحك، أو افتح عينيك وانطلق منهما إلى حيث يأخذك خيالك، هيا انطلق بلا قيود بلا حواجز، اعبر الطبيعة، واخترق الزمن!