من أدق المعايير لقياس تقدم الأفراد والمجتمعات، هو مدى التزامهم بالقيم، ووعيهم بأهميتها، وإحساسهم بضرورتها، ولا جدال في أن العيش دون قيم حاكمة أمر يناقض الفطرة السليمة التي خلق الله -سبحانه وتعالى- الناس عليها.. إلى أن تقوم الساعة، الناس متفقة على جملة متعددة من المحاسن، ومنها (الصدق) و(الأمانة) و(الإخلاص) و(العدل)، وغير ذلك، ومتفقة أيضا على نبذ مجموعة من الرذائل المعروفة، وهذا الثبات دليل قوي على أهمية القيم في حياة الناس، وعلى أن الحضارة ليست أبنية ناطحة للسحاب، أو أرصدة في البنوك مثلا، بل هي أمور أخرى، من جنس عدم إيذاء مشاعر الناس، وعدم نهب أموالهم، وعدم التكبر عليهم، وعدم الاستهزاء بهم، والقائمة طويلة، وتدل على أن الفضيلة يستحيل أن تنقلب إلى رذيلة، والخير لا يمكن أن يصير شرا، والارتباط بين القيم والتقدم ارتباط وثيق جدا، وكلما كان هناك إدراك للمسؤولية كان هناك إبداع في شتى المجالات، وكما أبدع من كان قبلنا سنبدع، بل وسنتفوق، شريطة البعد عن الكسل، أو الوقوف على الأطلال.
بذور الروح الحضارية موجودة في كل الناس، وتحتاج إلى أن يتعاهدها الإنسان نفسه، والمؤسسات، ومن بيده القرار، حتى تثمر، ومن ثم يتبدل اللا وعي إلى وعي، وينتهي الغث والإسفاف من حياتنا، وعندها سيعرف كل منا قيمة الانتماء للدين، أو الوطن، أو الأسرة، أو جهة العمل، وأن مفردة (الانتماء) تحتاج إلى أن تترجم إلى واقع ملموس، ومساهمة إيجابية، وليس أن يكتفي الواحد منا بالجلوس على مقاعد المتفرجين، وعدم التفاعل مع الأحداث المختلفة، فالمواطن المحب لوطنه ينبغي أن يواكب تطور وطنه، ولا يتقاعس عن واجبه، خصوصا عندما يكون وطنه مستهدفا من جهات عديدة، داخلية وخارجية، ولا يراد له أن يتقدم، ويأخذ مكانه الطبيعي والمستحق بين الأمم، كما أن على النافذين في وطنه أن يعتمدوا على (أهل الكفاءة) وليس على (أهل الثقة)، وبمعنى أدق عليهم أن يلتفتوا إلى أصحاب الخبرات الفكرية والفقهية والفنية وغيرها، المنصرفين إلى أعمالهم، ولا وقت لديهم للتقرب والتزلف، ويتركوا جانبا الذين يدينون لهم بالولاء، بدون خبرة أو كفاءة، وهذه تحتاج إلى أن نقتنع بأن كل صاحب كفاءة هو أهل للثقة، حتى لو كان من الخصوم، إذ إن مصدر الكفاءة هو علم الإنسان وتجربته ودقته في الالتزام بالقوانين واللوائح، أما أن يلتفت الواحد منا إلى معارفه، ومعارف معارفه، فهذا تحويل للمؤسسات والدوائر إلى مجرد أملاك خاصة، وأيضا محاربة مبطنة لأهل العلم والاختصاص، وتكريس لمنهج إداري عقيم فحواه (الشك قائم إلى أن يثبت العكس).