في فرنسا اليوم ضجّة. السبب هو تصريح صدر عن ماري لوبن في مدينة ليون الفرنسية ومفاده وصفها للمصلّين المسلمين على الأرصفة في بعض المدن الفرنسية حيث لا تتسع لهم المساجد أنهم "محتلّون" . ثمّ أضافت: "لكن دون دبابات" و"دون جنود"، و"لكنه احتلال مع ذلك".
وأكملت: "بالنسبة لأولئك الذين يحبّون كثيرا الحديث عن الحرب العالمية الثانية إذا كان المقصود هو الاحتلال فإنه يمكن الحديث بهذا الصدد عن احتلال". ثمّ عادت ماري لوبن وأكّدت بعد أيام لوكالة الصحافة الفرنسية قولها: "أكرر القول إن بعض الأرصفة، التي يتزايد عددها أكثر فأكثر، تخضع لقوانين دينية بدلا من قوانين الجمهورية. نعم هناك احتلال، واحتلال غير شرعي".
ماري لوبن هي الطامحة اليوم لوراثة أبيها جان ماري لوبن على رئاسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي اليميني المتطرّف. والابنة تسير على نهج الأب المؤسس لهذا الحزب وصاحب عشرات التصريحات خلال مسيرته السياسية التي تصبّ كلّها في خانة العداء العنصري ضد الأجانب عامة والعرب والمسلمين خاصّة.ولم يتردد في التأكيد أن استخدام ابنته لتعبير "الاحتلال" ليس فيه ما يثير الصدمة.
ليس هناك أي فرق بين تصريحات الابنة والأب وبين مثيلاتها التي تتكرر هنا وهناك في أوروبا. الجميع يستهدفون استنفار نفس المشاعر العنصرية "الدنيا"، ويمارسون نفس اللعبة الخطيرة التي تندرج في نفس منطق الحرب الأهلية إذا تمّ دفعها إلى نهايتها، ويلجؤون إلى الخلط المتعمّد بين الإسلام والتطرّف الذي يبقى ظاهرة هامشية تكاد لا تُذكر بين المسلمين.
وليس هناك أي لبس ممكن في أن استخدام مرجعية الحرب العالمية الثانية تعني محاولة الربط في الأذهان بين ما يعتبره القائلون فيها "احتلالا" اليوم وبين الاحتلال النازي للأرض الفرنسية في الأمس غير البعيد.
هذا كلّه وراءه هدف انتخابي واضح. وهو إثارة أجواء من الخوف والتخويف تدفع الناخبين الفرنسيين إلى الالتفاف حول أفكار اليمين المتطرّف. هذا ولو كان ثمن ذلك تأجيج الحقد الاجتماعي، بل واستخدام هذا الحقد كإستراتيجية انتخابية تحت عناوين عريضة مثل "مكافحة الهجرة" و "مكافحة المخلّين بالأمن" ورفع شعار "فرنسا للفرنسيين".
ولا شكّ أن ماري لوبن تستخدم هذه الأوراق كلّها، كما كان قد فعل والدها، من أجل تثبيت مواقع اليمين المتطرّف على رقعة الشطرنج السياسي الفرنسي اليوم على حساب اليمين التقليدي الحاكم. البعض يتحدثون اليوم عن احتمال أن تشهد الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2012 تكرار تجربة الانتخابات الرئاسية لعام 2002 عندما أخرج جان ماري لوبن المرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان من السباق في الدورة الانتخابية الأولى. هذا مع فارق أن الخارج في المرّة القادمة قد يكون مرشّح اليمين التقليدي.
وهناك أيضا أفق محاولة دفع اليمين التقليدي لقبول التحالف مع اليمين المتطرف كما حدث سابقا في النمسا وما يحدث اليوم في هولندا وإيطاليا. وفي جميع الحالات عبر إضعافه و "المزايدة" عليه في استثمار "رأس مال" الخوف لدى الناخبين.
وكي تكتمل الصورة في فرنسا ينبغي التأكيد على واقع أن الطبقة السياسية الفرنسية التقليدية عامة بيمينها ويسارها ووسطها أعلنت عن قلقها واستهجانها لتصريحات ماري لوبن. واتفق الجميع على القول إن مثل هذا الخطاب العنصري المتطرّف يحمل مخاطر حقيقية بإثارة شروخ في الجسد الاجتماعي الفرنسي. وذهبت بعض الجمعيات المناهضة للعنصرية إلى حد الإعلان عن أنها ستشرع برفع دعوى لدى المحاكم ضد ماري لوبن بسبب تحريضها على إثارة الحقد العنصري.
هناك إذن خطاب متطرّف تستخدمه أقليّة في فرنسا وفي أوروبا عامّة اليوم لأغراض الكسب السياسي السريع و "باهظ الثمن". لكن هناك وعيا عاما بخطورة آفة التطرّف وضرورة التصدّي لها من الأغلبية الساحقة.
يبقى المهم دائما هو عدم الوقوع في فخ التطرّف والقيام بردود فعل هي بالتعريف من نوع الفعل نفسه.