قبل أن أبدأ عرض فكرة هذا الجزء الرابع من سلسلة مقالاتي عن الصيرفة الإسلامية أحب أن أوضح أني أقصد بمن توجهت لهم أصحاب الفضيلة الذين يكتبون المقالات في الصحف أو يتحدثون في القنوات التلفزيونية، فيحذرون من التعامل مع البنوك ويشعرون العاملين فيها والمتعاملين معها بشكل مباشر أو غير مباشر أنهم آثمون، ويستخدمون أسلوب تعذيب الضمائر فيجعلون هذا القطاع العريض من المواطنين يشعرون بالألم والحرج الكبير.
وأنتقل بعد هذا إلى فكرة هذا المقال وأقول في البداية إني في مقالاتي الثلاثة السابقة حاولت أن أوضح عدة أمور من أهمها:
1 ـ أن المصارف الإسلامية تستأثر ـ في الغالب ـ بالأرباح الكبيرة التي تحصل عليها من استثمارها أموال مودعيها، بعكس البنوك التي تعطي أصحاب الودائع بعض ما تحصل عليه من أرباح نتيجة استثمارها تلك الودائع تختلف في معدلاتها حسب اختلاف معدلات الفائدة في السوق.
2 ـ أن ما تحصل عليه المصارف الإسلامية من فوائد نتيجة لاستثمارها أموال المودعين عن طريق (إقراضها) المحتاجين أكثر في معدلاتها من الفوائد التي تحصل عليها البنوك مما يؤكد أنها تفرض على هؤلاء المحتاجين مكاسب لها أكثر من المكاسب التي تفرضها البنوك.
3 ـ البنوك تستخدم الأسلوب المباشر في أنشطتها في حين أن المصارف الإسلامية تستخدم أساليب غير مباشرة تستنزف الوقت والجهد للمصرف والعميل ومع ذلك لا تلبي جميع احتياجاتنا المصرفية.
4 ـ البنوك تقرض النقود في حين أن المصارف الإسلامية لا تفعل ذلك تجنباً للربا وتلجأ في الغالب لأسلوب (التورق المنظم) على اعتبار أنه أسلوب شرعي حلال، ولكن واقع الأمر أن مجمع الفقه الإسلامي قد حرَّم هذا الأسلوب، وقال إنه ربا، وإنه يقوم على التحايل، كما أن بعض أصحاب الفضيلة العالمين ببواطن الأمور في المصارف الإسلامية لا يكتفون بتحريم هذا الأسلوب بل يعتبرونه أشد حرمة من أنشطة البنوك لكونه يقوم على التحايل.
5 ـ مجمع الفقه الإسلامي بعد أن حرَّم هذا الأسلوب الذي تستخدمه في الغالب مصارفنا الإسلامية خاصة في أنشطتها المالية الكبيرة طالبها بالعدول عنه إلى الوسائل الأخرى المتاحة، وقد قلت إن مصارفنا لم تستجب لطلب مجمع الفقه الإسلامي في نهجها ليس لأنها لا تحب أن تكون الوسائل التي تستخدمها مباحة وخالية من أي شوائب، بل على العكس هي حريصة على هذا لأن هذا في مصلحتها، ولكنها فيما يبدو لم تستجب لرغبة مجمع الفقه لأن الأنواع الأخرى إما أنها لا تحقق الأغراض المطلوبة، أو لكونها يتعذر تطبيقها ومثلّت بأسلوب (المشاركة) وقلت من هو ذلك المصرف الذي يمكن أن يغامر بودائع عملائه فيدخل بها شريكاً في مشاريع رجال الأعمال والشركات الكبيرة التي تحتمل الربح والخسارة، وقلت إنه حتى لو قبلت المصارف أن تغامر بودائع عملائها على هذا النحو فإن مؤسسة النقد لا يمكن أن تسمح لها بذلك.
وبعد هذا أقول لأصحاب الفضيلة الذين عنيتهم.. طالما أن مصارفنا الإسلامية الآن تطبق في عملياتها المصرفية الأساسية أساليب حرَّمها مجمع الفقه الإسلامي لكونها ربا وأشد حرمة من أنشطة البنوك فلماذا لا تواصلون أبحاثكم وجهودكم للبحث عن صيغ جديدة تحقق الآتي:
1 ـ التوصل إلى وسيلة مصرفية شرعية تمكن أصحاب الودائع من عملاء المصارف الإسلامية من الاستفادة من مدخراتهم بالحصول على جزء من الأرباح التي تحصل عليها المصارف من استثمارها تلك المدخرات ويكون ذلك بأسلوب سلس يزرع الأمل والأماني في نفس المواطن الذي تعب كثيراً في تحصيل مدخراته ويبعد عنه هاجس الخوف من أن يخسر مدخراته أو بعضها نتيجة رغبته في الاستفادة منها.
2 ـ التوصل إلى أسلوب شرعي غير "التورق المنظم" يمكِّن المصارف من القدرة على استثمار المبالغ الضخمة المتراكمة لديها (مئات المليارات) بحيث تتوفر في هذا الأسلوب المرونة، وسرعة الإنجاز والقدرة على الاستفادة من السيولة الضخمة المتوفرة وتجنيب المصرف مخاطر المجازفة بمدخرات المواطنين المودعة لديها.
إني أؤكد على الحق الكامل لكل مجتهد أن يبحث عن الصيغ المصرفية المناسبة التي تلبي حاجة الأمة للخدمة المصرفية حسب رأيه، وأؤكد حقه في أن يحاول إقناع الآخرين بسلامة ما يتوصل إليه، ولكن ليس بأسلوب تعذيب ضمائر الذين لم يقتنعوا بأن الصيغ التي تحرمهم من الاستفادة من مدخراتهم هي الصيغ السليمة، ولم يقتنعوا بأن تلك الصيغ التي تأخذ منهم فوائد أعلى عندما يحتاجون للنقود هي الصيغ السليمة، ولم يقتنعوا بأن الصيغ الشائكة الكثيرة الخطوات هي الصيغ المناسبة، فالإقناع ينبغي أن يكون بالحسنى وليس بتعذيب الضمائر.
إنني أرجو من أصحاب الفضيلة الذين يهمهم التوصل إلى صيرفة إسلامية حقة تلبي المطالب وتقف على قدميها نداً للصيرفة العالمية أن يواصلوا أبحاثهم واجتهاداتهم للتوصل لهذا النوع الذي ينصف أصحاب المدخرات، وينصف المحتاجين لاقتراض النقود، وينصف المصارف أيضاً وحتى يتحقق ذلك ويتم التوصل لتلك الصيغ التي لا تحرمها مجامع الفقه وبعض الأوساط الشرعية أرجو من أصحاب الفضيلة أن يَدَعُوا البنوك التي هي الأكثر الآن وهي التي تقوم بالأنشطة المصرفية الأساسية.. يَدَعُوها تمارس دورها الحيوي، ويَدَعوا العاملين فيها والمتعاملين معها وهم الأغلبية في سلام دون تحسيسهم بالذنب وعذاب الضمير، وأرجو ألا يحتجوا بكون أنشطة البنوك حراما لأن أنشطة المصارف الإسلامية المستخدمة لـ "التورق المنظم" هي الأخرى حرام وربا حسب قرار مجمع الفقه الإسلامي بل أشد حرمة من أنشطة البنوك حسب رأي أصحاب الفضيلة الذين هم أكثر خبرة من غيرهم بتلك المصارف أي كلهم (في الهوى سوا).