الصورة التي أصبحت أيقونة اجتماع الدول السبع أو ما يعرف بالـG7 قبل أيام، والتي ظهر فيها الرئيس ترمب جالسا يحيطه قادة ألمانيا وفرنسا واليابان وبريطانيا، ذكرتني باللوحة الشهيرة للرسام الأميركي «جون ترمبل»، التي تعرف بلوحة «بيان الاستقلال»، حيث يقف مجموعة من نواب الشعب أمام زميلهم الجالس خلف طاولة في قاعة مكتظة بأعضاء مجلس النواب الأميركي عام 1776، عند توقيع بيان استقلال أميركا عن بريطانيا.
وجه الشبه أو ربما يبدو كذلك بين اللوحة وبين صورة ترمب جالسا يستمع للقادة المحيطين به هو فكرة الاستقلال، فترمب خرج من هذا الاجتماع معزولا بموقف معلن مستقل عن الرأي الغالب بفعل تصريحاته ومواقفه التي لا تتماشى مع الإجماع، الذي تسعى له باقي الدول في مجال التبادل التجاري والموقف من الاتفاق النووي، وماهو مقبول من الأطراف الدولية من قمة ترمب كيم جونغ أون.
المفارقات بين اللوحة التي سجلت لحظة تأسيس الولايات المتحدة والصورة التي شهدت حالة انعدام الثقة بين ترمب وشركائه الدوليين كثيرة، فاللوحة تسجل لحظة تاريخية لتحول أميركا لكيان متحد يواجه جبروت القوة العظمة حينها أي «بريطانيا»، وهو موقف يتشابه في صميمه مع الصورة الملتقطة الأسبوع الماضي في كونها رد أميركي لما يعتبره ترمب ظلما تجاريا واقتصاديا يقع عليها من دول لا تستحق أن يكون لها ما لها اليوم، إلا لكون الإدارات الأميركية السابقة تخاذلت وتهاونت في الدفاع عن حقوق ومكانة أميركا في العالم.
عندما استقلت أميركا عن بريطانيا في بادئ الأمر لم تكن سوى ثلاثة عشر ولاية اتفقت فيما بينها على رفض الاستمرار في دفع الضرائب للتاج الملكي البريطاني، دون أن يكون لها حق التمثيل في البرلمان البريطاني باعتبارها إحدى المستعمرات البريطانية، وعندما كان رأي الملك أنهم مجرد تابعين وسيخضعون بالقوة حتما، قامت ثورة الأميركان بتصعيد مطالبتهم بأن أعلنوا تمردهم واستقلالهم عن التاج.
اليوم يقوم ترمب بذات الشيء، فهو مستعد أن يرمي كل شيء في البحر ويتمرد على كل الأسس التي ربطت وأسست لنظام عالمي يهدف لبسط الاستقرار من أجل تحقيقه شيئا واحدا فقط «أميركا أولا»، وهو ما يجعل مواقفه وسياساته تتماشى مع النزعة الشعبوية التي تتحمس للخطاب «القومجي» الأميركي أكثر من اهتمامها بالنتائج طويلة المدى، أو بتمسك قادتها بالمبادئ التي أسس عليها الكيان الأميركي كما وضعها الآباء المؤسسون.
بيان الاستقلال والدستور بتعديلاته وما يمثله كل ذلك من مبادئ وقيم يعد من أهم الركائز التي تحمي حقوق المواطنين وتضمن عدم هيمنة أي شخص أو جماعة وإن كانت الأغلبية على القرارات المصيرية للأمة، وهو الإشكال الذي قد يواجهه ترمب وحزبه الجمهوري في القريب العاجل من قبل الجمهوريين الشباب الذين سيشكلون رقما صعب في الانتخابات النصفية القادمة، فهم على عكس آبائهم وأجدادهم لا يولون أهمية للسياسات الشعبوية، بل يعد التزام السياسي بالمبادئ والقيم التي بني عليها المجتمع الأميركي العنصر الأهم في مواقفهم واختيارهم للعضو الجمهوري والرئيس القادم، وحيث إن ترمب يعمل بشكل منظم على عزل أميركا عن العالم كما يقول البعض قد ينتج عن ذلك حالة من السخط الشبابي سيكون لها تأثير حقيقي في المرحلة القادمة.
شبّه البعض الصورة الترامبية آنفة الذكر بأنها تجسيد حديث للوحات فنية من عصر النهضة، تلك اللوحة الصامتة التي تحمل لغة الجسد والأعين المرسومة معان دفينة وعبارات غير منطوقة، إلا أن بين عصر النهضة وما يحمله من تنوير عالمي، وبين صورة الرئيس عوالم، يقول البعض أنها كالفرق بين عصور التنوير وعصور الانعزال.